بقلم المهندس ابراهيم آل كلثم الصيعري
١٠/١٤/ ٢٠٢٤ م
كشرطٍ للدخول أو الإنتقال إلى أي مرحلةٍ دراسية، علمية، أو عملية، جرت العادة أن يجتاز المرء الإمتحان المخصص لذلك. الجميع يعلم ذلك ويتقبله، بل ويعتبره من المُسلَّمات. وهناك إختبارات من نوع آخر قد يغفل عنها البعض، وقد ينكرها البعض الآخر. ومهما يكن، فإنها جبرية، وحتماً سيخوض غمارها كل مُكلَّف، صغيراً كان أم كبيراً، غنياً أم فقيراً، مواطناً كان أم مسؤولاً، ألا وهي اختبارات الشكر والصبر.
ومع أن الله جل جلاله لا يُكلِّف نفسًا إلا وسعها فيما يتعلق بالتكاليف التي فرضها على الإنسان من عبادات وطاعات، إلا أن الله قد يبتلي الإنسان ابتلاءً شديدًا. فإن صبر، ظفر برضوان الله تعالى، وكان له أجر عظيم بقدر المشقة التي أصابته. فقد ورد في الحديث الصحيح: «عنْ عطاءِ بْن أبِي رباحٍ قال: قَالَ لي ابنُ عَبَّاسٍ: ألَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِن أهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلتُ: بَلَى، قَالَ:هذِه المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أتَتِ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقَالَتْ: إنِّي أُصْرَعُ، وإنِّي أتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ: إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ ولَكِ الجَنَّةُ، وإنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أنْ يُعَافِيَكِ فَقَالَتْ: أصْبِرُ، فَقَالَتْ: إنِّي أتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لي أنْ لا أتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أخْبَرَنَا مَخْلَدٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أخْبَرَنِي عَطَاءٌ: أنَّه رَأَى أُمَّ زُفَرَ تِلكَ امْرَأَةً طَوِيلَةً سَوْدَاءَ، علَى سِتْرِ الكَعْبَةِ» [البخاري : ٥٦٥٢].
ومن الجانب الآخر، هناك إختبار الشكر لله، وهو أمر يغفل عنه الكثيرون. فالشكر لا يكون بالأقوال فقط، بل يجب أن يُترجم إلى أفعال. فشكر نعمة المال يكون بالإنفاق في أوجه الخير، وشكر نعمة الجاه يكون بتسخيره لنفع المحتاجين، وشكر نعمة القوة يكون بنصرة الضعيف والدفاع عن الحق… إلخ.
وإختبار الشكر ليس بأقل من إختبار الصبر، وإن بدا كذلك. فأغلب من يفشل في الإختبار هم من أهل إختبار الشكر، ذلك أن الشدائد تجعل الإنسان يلجأ إلى ربه؛ لعله يفرج كربته، بينما المنعَّم قد يغتر بما أُوتي، فينسبه إلى نفسه وقدرته وعلمه، جاحدًا فضل الله عليه، فلا يؤدي حقه، هذا إن لم يُسِئ إستخدامه. وبذلك، تكون عاقبته الخزي والندامة. وبما أن الأجر يأتي على قدر المشقة، فإن للصابر من الأجر ما يعوضه عما فاته من نعيم الدنيا وصبره على بلاويها. فتتحقق العدالة الإلهية عندما تنصب الموازين، فتكون أعمال الدنيا في كفة، وثواب الآخرة في الكفة الأخرى.
وما أكثر ما يتزلف الناس إلى أصحاب النعم من مالٍ وجاهٍ وسلطانٍ وغير ذلك، حتى إذا أخذ الله منهم ما أنعم به عليهم واستبدل حالهم بحال أخرى، انفضوا من حولهم. وهم الذين كانوا يتمنون مثل ما أُوتوا. قال تعالى في سورة القصص عن قارون وقومه: «فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (٨٢)».
ومما لا شك فيه أن كل ما في هذه الدنيا زائل، سواء لذة نعيمها أو قساوة شقائها، ويُنسى كل ذلك يوم القيامة بمجرد غمسة في جنة أو نار، كما في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه: {يؤتَى يومَ القيامةِ بأنعَمِ أَهْلِ الدُّنيا منَ الكفَّارِ ، فيُقالُ: اغمِسوهُ في النَّارِ غَمسةً ، فيُغمَسُ فيها ، ثمَّ يقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ نعيمٌ قطُّ ؟ فيقولُ: لا ، ما أصابَني نعيمٌ قطُّ ، ويؤتَى بأشدِّ المؤمنينَ ضرًّا ، وبلاءً ، فيقالُ: اغمِسوهُ غمسةً في الجنَّةِ ، فيُغمَسُ فيها غمسةً ، فيقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ ضرٌّ قطُّ ، أو بلاءٌ ، فيقولُ: ما أصابَني قطُّ ضرٌّ ، ولا بلاءٌ} [ابن ماجه : ٣٥٠٦].
وختامًا ينبغي أن نعلم أن هذه الاختبارات ليست كغيرها من الاختبارات، فبعد ظهور النتائج وتوزيع الشهادات (الكتب)، سينقسم الناس إلى ثلاث فئات كما ذكر الله في سورة فاطر بقوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)}.
والناجحون في هذه الإختبارات الإلهية ليسوا كسائر الناجحين، وكذلك الراسبون فيها ليسوا كسائر الراسبين؛ كما ورد في قوله تعالى في كتابه الكريم، من سورة الانشقاق: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨) وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (١١) وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا (١٢) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (١٤) بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (١٥)}.
كما أن مما يميز هذه الإختبارات عن سائر الإختبارات أنه لن يكون هناك رجعة لأداء اختبار دور ثانٍ. قال تعالى في سورة فاطر عن الراسبين: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (٣٧)}.
وأما الناجحون، فقد قال عنهم رب العزة والجلال في نفس السورة: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٣٣) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (٣٥)}.