بقلم المهندس ابراهيم آل كلثم الصيعري
١٠/١٥/ ٢٠٢٤ م
قال رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح: “كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا ومن يأبى، قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى” [ السلسلة الصحيحة : ٣١٤١]. وانطلاقًا من هذا الحديث، نود سبر العلاقة الصحيحة بين المسلمين وغير المسلمين في ظل الإسلام، وكيفيتها من غير إفراط ولا تفريط.
فبدايةً، لقد نظَّم الإسلام العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين بأروع ما يكون من تنظيم، وعُني بهذه العلاقة وجعل لها ضوابط تضبطها في جميع الحالات: من سلمٍ، وحربٍ، ومعاهدة، ووضعها في نصابها الصحيح. فلا يُظلم غير المسلم في ظل الإسلام، ولا تُمتهن كرامته، ويُصان ماله، ويُحفظ عِرضه. فما أروعه من تنظيم! وكيف لا يكون كذلك وهو تشريعٌ من رب العالمين، خالق المسلم وغير المسلم.
ومن هذا المنطلق، سنستعرض في هذه المقالة تنظيم الإسلام للعلاقة مع غير المسلمين، وما ينبغي وما لا ينبغي أن تشمله هذه العلاقة من واجبات ومحظورات، وكيفية ومستوى هذه العلاقة كما شرعها الإسلام من منظور متجرد من المصلحة والهوى والعنصرية البغيضة.
بدأت العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين منذ بداية البعثة النبوية، عندما كان المسلمون قلةً مستضعفين في الأرض. إذ انقسم غير المسلمين حيال الإسلام والمسلمين إلى عدة فئات: منهم المُسالم، ومنهم المحارب، ومنهم من بالغ في عداوته للمسلمين حداً تجاوز كل الحدود. حتى إن رسول الله ﷺ، عندما دخل مكة فاتحًا، عفا عن أهل مكة ما عدا إربةً أمر بقتلهم، ولو تعلقوا بأستار الكعبة، وذلك لعظم جرمهم.
ثم بعد أن قويت شوكة الإسلام، اجتهد المسلمون في دعوة غير المسلمين حرصًا على هداهم ونجاتهم من النار، امتثالاً لأمر الله، لا يريدون دينارًا ولا درهمًا إلا الأجر والمثوبة من الله.
وبعد أن أصبحت للإسلام دولة، وأصبح غير المسلمين رعايا يعيشون فيها، وضع الإسلام تشريعاته لتنظيم العلاقة مع غير المسلمين بما يتناسب مع أوضاعهم، كأهل ذمة، أو معاهدين، أو مسالمين، أو محاربين، أو مداهنين يتربصون بالمسلمين الدوائر، كما فعل يهود بني قريظة.
المسالمون والمحاربون من غير المسلمين، والموالون للعدو
قال تعالى في سورة الممتحنة في حقِّ المسالمين من غير المسلمين، وهم الذين لم يحاربوا المسلمين ولم يُعينوا عليهم: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)}.
وفي نفس السورة، قال تعالى في حق المحاربين من غير المسلمين ومن يعينهم على محاربة المسلمين: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)}.
وقد حذّر الله من موالاة هذه الفئة تحذيرًا شديدًا، كونها تُلحق الموالي بمن والى، كما في قوله جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة : ٥١].
ومما لا شك فيه أنَّ الموالاة تختلف عن التعامل المبني على تبادل المصالح، بما يعود بالصالح العام على الإسلام والمسلمين كافة، وليس لفئة على حساب الإسلام وعامة المسلمين؛ فإنَّ مثل هذا الفعل قد يرقى إلى خيانة الله ورسوله.
وفي حقِّ المسلمين الذين يتسابقون إلى مرضاة العدو خشيةً منه، قال تعالى في سورة المائدة: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ۙ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ۚ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (٥٣)}.
المعاهدون من غيرِ المسلمين
يقول الله جل جلاله في حق المعاهدين من غير المسلمين الذين لم ينقضوا العهود ولم ينقصوا منها شيئا: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [المائدة : ٤]. فالإسلام دين الحق لا يأمر بغير الحق، لذا فهو يأمر المسلمين باحترام العهود والمواثيق طيلة مدة المعاهدة، فلا يجوز للمسلم نقض العهود ولا انتقاص شيء منها.
علاقة المسلمين فيما بينهم، وعلاقتهم بغير المسلمين
تُلخص هذه الآية كيف ينبغي أن تكون الموازنة في العلاقة بين المسلمين أنفسهم وكذلك مع غيرهم، إذ يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة : ٥٤].
فبعد هذه الآية، كيف يمكن للمسلمين أن يتقاتلوا فيما بينهم بينما يتصالحون مع أعدائهم الذين يعملون في الخفاء ليل نهار لإدامة هذا الاقتتال وتغذيته والتكسب منه، فيما يُظهرون خلافه من الصداقة وحسن النوايا؟ فتجدهم يستميلون هذا ويحاربون هذا، كما في القصة المشهورة، قصة الثور الأبيض والثور الأسود، عندما عجز الأسد عن افتراسهما وهما متكاتفان، عمل على إقناع الثور الأبيض بأن مشكلته فقط مع الثور الأسود، فإن تركه يقضي عليه، عاشا كصديقين. فتم للأسد مراده حين ظن الثور الأبيض أنه بذلك يشتري راحته، ولكن ما إن انتهى الأسد من افتراس الثور الأسود حتى التفت إلى الثور الأبيض يريد افتراسه، فأخذ الثور الأبيض، الذي كان له من اسمه نصيب، يذكر الأسد بصداقتهما وكيف أنه لم يدافع عن الثور الأسود لأجل هذه الصداقة، ولما أدرك متأخراً أنه قد وقع في فخ ومكيدة الأسد قال: أُكِلْتُ يَوْمَ أُكِلَ الثور الأسود، ولكن هيهات أن ينفع الندم.
الذميُّ والجارُ غيرُ المسلم
بعد أن أصبح للإسلام دولته، دخل تحت مظلته من ليس منهم من غير المسلمين، فلم يتم إجبارهم على ترك دينهم، وإنما تم ترك الخيار لهم بين الدخول في الإسلام أو دفع الجزية. فمن اختار الإسلام صار له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن اختار دفع الجزية ضمن له المسلمون الحياة الكريمة في أمن وأمان، وحفظوا ماله وعرضه وعاش في حمايتهم.
وقد راعى المسلمون أحوال غير المسلمين، فالفقير تم إعفاؤه من دفع الجزية كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما رأى شيخًا كبيرًا يتسول لجمع قيمة الجزية، فأعفاه من ذلك.
وقد خصَّ الإسلام الجار بشكل عام بحقوق لم يستثنِ منها الجار غير المسلم إلا من بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة والعبادة، فعن أبي شريح الكعبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، قيل: يا رسول الله لقد خاب وخسر ، من هذا ؟ ، قال: من لا يأمن جاره بوائقه ، قالوا: وما بوائقه ؟ ، قال: شره” [رواه البخاري : ٢٥٥١]. وقد ورد لفظ الجار في هذا الحديث مجردًا من أي صفة، فلم يحصره في المؤمن ولا في المسلم، وإنما أطلق اللفظ ليشمل كل جار سواءً كان مسلمًا أو غير مسلم.
وقد جعل الله للعلاقة بين الجار وجاره، سواءً كان فردًا أو غير ذلك، أهمية قصوى في الإسلام، كي يكون الناس عونًا لبعضهم بعضًا ويعيشوا في أمن وأمان. ومن ذلك:
حقُّ الجارِ غيرِ المسلمِ على المسلمِ
للجار غير المسلم على جاره المسلم مثلما للجار المسلم، باستثناء ما يتعلق بالأمور العقائدية والتعبدية، فليس للمسلم أن يشارك جاره في ذلك، وما عداه فهو مطلوب. فعلى الجار المسلم أن يشارك جاره غير المسلم أحزانه وأفراحه، ويقدم له ما يحتاجه من معونة وصدقة وهبة، فيشاركه مناسبات الأفراح لديه، ما عدا الأعياد الدينية لمخالفتها لدين الإسلام، وكذلك يواسيهم في أحزانهم ولكن يختار عبارات المواساة بحيث لا تتضمن الدعاء لميت غير مسلم، فقد نهى الله عن ذلك بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة : ١١٣].
واجب تعريف الجار غير المسلم بدين الله
من حب الخير للجار غير المسلم أن تُحب له الهداية ودخول الجنة امتثالًا لأمر الله بالدعوة لدينه دين الحق من غير إكراه، كما بيَّن في قوله تعالى في سورة يونس: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٠)}، وكما في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل : ١٢٥] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ} [التوبة : ٦]. ففي هذه الآية الكريمة بين الله جل جلاله أنه ليس على المسلم إلا أن يتيح الفرصة لغير المسلم ليسمع كلام الله، وليس عليه هدايته كما في قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ …} [البقرة : ٢٧٢].