بقلم المهندس ابراهيم آل كلثم الصيعري
١٧/ ١٠/ ٢٠٢٤ م
قبل الشروع في الحديث حول الاتباع والابتداع، يجدر بنا أن نشير إلى أن الإشكالية تبدأ من تأليه العقل والهوى. قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:٢٣] .
و قال رسول الله ﷺ : “خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار”. وقال ﷺ: إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة”. كما قال ﷺ: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”، وقال ﷺ أيضاً: “من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد”.
و في البداية لا بد لنا من تعريف محدد لمعنى البدعة. فكثير من الناس جعل هذا المعنى مطاطاً وخاضعاً لمعايير عقله وفكره، فتجد أحدهم يرى أمراً ما بدعةً بينما يرى أمراً غيره ليس ببدعة بالرغم من اشتراكهما في نفس العلة. فلماذا لا يأخذان نفس الحكم؟! إنها الزاوية التي ينظر من خلالها إلى كل منهما!.
ما يؤتى به مخالفاً لدين الله. لذا، فالبدعة هي: استحداث أمر جديد في أمور الدين والعبادة. وبهذا التعريف يخرج ما لا يُتعبد به من أمور الحياة الأخرى عن مجال البدعة المنهي عنها شرعاً. وقد حددها الشيخ ابن باز رحمه الله في جوابه على أحد المتصلين للسؤال عن البدعة قائلاً: “يعني في الدين هذا هو المراد، ما هو بأمور الأكل والشرب والعادات، لا، البدعة في الدين، الحدث في الدين”.
و صدق رسول الله ﷺ عندما أخبرنا في الحديث الشريف قائلاً: “أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ ، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ و بلفظٍ آخر : … وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً” ، قَالُوا : “وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟” قَالَ: “مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي”. وبهذا يتضح شرط النجاة وهو الاتباع وعدم الابتداع في دين الله.
والمتأمل لحال المسلمين اليوم يجدهم وقد افترقوا في مذاهبهم ما بين متشدد ومتساهل (تاركين دين الوسطية)، وما بين مبتدع وناكر (مخالفين القرآن والسنة). وقد أخبرنا رسول الله ﷺ عن كل تلك الأصناف، صنفاً صنفاً، وأرشدنا إلى الطريق الصحيح الخالي من كل بدعة ومن الإفراط والتفريط. وسنعرض لبعض من تلك الأصناف في معرض حديثنا عن البدع. ويمكن تقسيم هذه الفرق إلى مجموعات بحسب ما يميزها عن بعضها البعض كما يلي:
الخوارج:
مما لا شك فيه أن الخوارج فئة من المبتدعة بمعناها الشامل. وأهم ما يميز هذه الفرقة هو التشدد الذي يصل بهم إلى تكفير المسلمين. كما يميزهم التشدد في العبادة الظاهرة حتى أننا نحتقر عبادتنا عند عبادتهم. لكن في حقيقتهم، فإن القرآن لا يجاوز حناجرهم. وقد أخبر عنهم رسول الله ﷺ في الحديث الشريف بقوله: “سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة. وقال ﷺ: “يَأْتِي مِنْ بَعْدِكُمْ أَقْوَامٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعِبَادَتَكُمْ مَعَ عِبَادَتِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ”.
المُفَّرِطْون و المُفرِطْون:
مما لا شك فيه أن الإسلام دين الوسطية كما في قوله تعالى: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” [البقرة: ١٤٣]. فمن اتبع منهج الرسول ﷺ في الوسطية نجا، ومن خالفه هلك. وينقسم مخالفو منهج الرسول ﷺ ما بين متشدد (متنطع) ومتساهل (مفرط).
فهناك من يُفرط في أمور دينه بتساهله في إتيان المحرمات وتقاعسه عن القيام بالواجبات وهو يعلم بمعصيته. أما إن فعل ذلك إنكاراً واعتراضاً على أوامر الله ونواهيه، فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ وخرج من ملة الإسلام.
كما أن هناك متشددين وقعوا فيما نهى عنه رسول الله ﷺ بقوله: “هلك المتنطعون”، أي المتعمقون الغالون المجاوزون للحدود في أقوالهم وأفعالهم. وقد حدث في عهد رسول الله ﷺ أن جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادته. فلما أخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي ﷺ، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا فإنّي أصلي الليل أبداً. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله ﷺ إليهم فقال: “أنتم الّذين قلتم كذا وكذا ؟!، أما والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوّج النّساء، فمن رغِبَ ( أعرض ) عن سنّتي فليس منّي”.
الباطنية والصوفية:
من أبرز ما يميز الجماعات المبتدعة المندرجة تحت هذين التصنيفين، وهم كثر، تقديسهم للأشخاص وقد يجعلونهم شركاء لله في أسمائه وصفاته وعلمه وقدرته. كما أنهم يصدقون خرافات تتعلق بمعجزات تجري على أيدي من يقدسون من الأولياء والصالحين، أو ممن صدَّقوا ادعائهم الصلاح من الدجالين.
ما يميز الباطنية عن الصوفية هو جعلهم لكلام الله في القرآن معاني باطنة تخالف معانيه الظاهرة، ولا يعلم تلك المعاني الباطنة في زعمهم إلا علماؤهم. ولا شك أن هذا الاعتقاد الباطل فتح الباب على مصراعيه للبدع والخرافات والكذب على دين الله.
المشككون في الحديث والسنة:
هناك من الفِرَق من يدعي الإيمان بكتاب الله وحده كونه محفوظاً، ويشكك في حديث وسنة رسول الله ﷺ بحجة أنها ليست محفوظة كحفظ القرآن. يقول ذلك وهو يجهل علم الحديث وعلم الرجال، ولم يكلف نفسه عناء البحث والتقصي في ذلك.
من يتأمل هذا الادعاء قليلاً، سيجد أن إنكار حديث رسول الله ﷺ والتشكيك فيه لا يتفق أبداً مع الإيمان بكتاب الله مهما سيق في سبيل ذلك من حجج وأدلة. قال تعالى: “وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” [الحشر:٧] ، فمن مقتضيات الإيمان بالقرآن الإيمان بما أمر به ونهى عنه رسول الله ﷺ.
وبعض من يقوم بالتشكيك في أحاديث وسنة رسول الله ﷺ، مثل الملحدين والمنافقين، يفعلون ذلك بغرض الطعن في دين الله، لعدم إيمانهم بما أُنزل على محمدٍ ﷺ. وهذا كفرٌ بواحٌ، والعياذ بالله، وعليهم من الله ما يستحقون.
وهناك من المسلمين من يتم التلبيس عليهم وتشكيكهم في مدى دقة وصحة ما نُقل عن الرسول ﷺ استغلالًا لقلة علمهم وبعدهم عن أهل العلم، واعتمادهم على عقولهم وما يُلقى عليهم من أباطيل، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء السؤال والاستفسار من أهل العلم. وهم بذلك يخالفون أمر الله في محكم التنزيل، حيث قال جل جلاله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣].
المقلدون لأهل الملل الأخرى:
مما يؤسف له أن نجد من المسلمين من يقلد غيرهم حتى في أمور تتعلق بالعقيدة والشعائر، كما في قصة قوم موسى عليه السلام في قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:١٣٨] .
وقد أخبر رسول الله ﷺ بأنه سيحدث ذلك، بقوله: “لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ”. وقد حدث ذلك، ونراه في زمننا هذا رأي العين.
الملاحدة والمنافقون:
الملاحدة والمنافقون وجهان لعملة واحدة، غير أن الملاحدة كشفوا عن وجوههم وأعلنوها صراحة، فهم يحاربون الدين من خارجه بالتشكيك فيه وإثارة الأباطيل حوله. وقد ذكرهم الله في محكم التنزيل بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:٤٠].
بينما ينخر المنافقون في الدين من داخله، متدثرين بثياب المسلمين. ولشدة خطرهم على الإسلام والمسلمين، فقد نزلت سورة كاملة في القرآن الكريم باسمهم، كما وردت آيات وأحاديث كثيرة في المنافقين تحذر منهم وتبين عاقبتهم. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر:١١]. وقال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:١٣٨].
وقد توعد الله الكافرين والمنافقين ومن يستمع لهم بمصير واحد، ألا وهو دخول جهنم. قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:١٤٠]
لا يغرّنك كثرة الخبيث وأهل الباطل، فيوم القيامة لن ينفع أحدٌ أحداً. قال تعالى في سورة عبس: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) ، وفي سورة المعارج: يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (١٤)}.
ولكن هل ينفع الندم يومئذٍ؟! قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:٢٧].
هذا، والله نسأل أن ينفع بما كتبنا وأن يتقبله منا خالصاً لوجهه الكريم.