كاتب القصة/ الإعلامي:خضران الزهراني
في ركنٍ هادئ من هذا الوطن، حيث تلامس التلال الغيم، وتتناثر بيوت الطين كأنها لآلئ على سفح الذاكرة، كانت هناك بلدة صغيرة، لا يعرفها الكثيرون، لكنها تحمل بين أزقتها عبق التاريخ، ودفء الحكايات. في تلك البلدة، عاش رجل يُدعى “سعيد”، رجل لم يكن صوته الأعلى، ولا مظهره الأبهى، لكنه كان يحمل في قلبه كنزًا لا يقدّر بثمن: التراث.
وُلد سعيد في بيت متواضع، يجاور المسجد والسوق الصغير، وكان منذ نعومة أظفاره يرافق جدته في أمسيات البلدة، حيث يجتمع الأهل تحت ضوء القمر، وتنتثر الحكايات كما تنتثر النجوم في السماء. كانت جدته لا تملّ الحديث عن زمن مضى، تتحدث عن رجالٍ ساروا على الأقدام لأيام من أجل لقمة العيش، عن نساءٍ كنّ يطرزن الأمل على أكمام الثياب، عن مواسم الحصاد، وعن رقصات الليل التي كانت تملأ الساحات ضوءًا وفرحًا.
كان سعيد يصغي بلهفة، كأنّه يسمع أغنية لا يريد لها أن تنتهي. تعلّم منها أن التراث ليس مجرد صور معلّقة أو كلمات تردد في المناسبات، بل هو حياة كاملة، نبض مستمر، وذاكرة تتنفس بيننا.
مرت السنوات، وكبر سعيد، وكبرت معه تلك الحكايات. وحين بدأت البلدة تتغير، حين حلّت المباني الأسمنتية محل البيوت الطينية، وحين خفتت الأغاني في ليالي الأعراس، شعر سعيد بشيء من الحزن يتسلل إلى قلبه. كان يرى الأطفال يُسلمون هواتفهم الذكية كل تفاصيل يومهم، دون أن يعرفوا معنى الدفوف، ولا طعم الأهازيج التي كانت تُغنى في مواسم المطر.
لكنه لم يقف موقف المتفرج. قرر أن يفعل شيئًا، أن يكون صوتًا يُعيد لذاكرة البلدة نبضها القديم. جمع أصدقاءه الذين يشاركونه ذات الحنين، وأسسوا معًا “نادي التراث والثقافة”. لم يكن الأمر سهلاً، فقد تطلب جهدًا وصبرًا، لكنه كان يوقن أن ما يقومون به أكبر من مجرد نشاط، إنه استعادة لروح بلدتهم.
في النادي، بدأوا بتنظيم أمسيات تراثية، يعيدون فيها الأغاني القديمة، ويعلمون الأطفال الألعاب الشعبية التي كانت تُمارس في الأفنية. دعوا كبار السن ليحكوا ذكرياتهم، وليكونوا جسورًا تربط الماضي بالحاضر. بدأ الأطفال يتجاوبون، والشباب يجدون في هذا النادي مكانًا مختلفًا، يحملهم إلى عالم لم يعرفوه، لكنه يشبههم بطريقة ما.
تحول النادي إلى قلب نابض داخل البلدة، تعود فيه الأرواح إلى جذورها، وتلتقي فيه الأزمنة، حيث لا يشعر المرء أنه غريب بين جدران الحكاية.
سعيد، وهو يتأمل الوجوه المستمعة، يدرك أن التراث ليس شيئًا نحتفظ به في الأدراج أو المتاحف، بل هو ما نعيشه، ما نحكيه، وما نمرره كأمانة للأجيال القادمة. كان يشعر أن كل أغنية تُغنى من جديد، وكل رقصة تُعاد، هي خطوة نحو استرداد الذات، نحو حفظ ملامح من كدّوا وعاشوا، وضحكوا وبكوا، على هذه الأرض الطيبة.
وهكذا، لم تكن قصة سعيد مجرد حكاية عن رجلٍ أحب ماضيه، بل كانت شهادة حيّة على أن في التراث ما يمنحنا الثبات وسط كل هذا التغير، وما يُبقي جذورنا راسخة، حتى ونحن نحلّق نحو المستقبل.