بقلم المهندس ابراهيم آل كلثم الصيعري
٢١/ ١٠/ ٢٠٢٤ م
زارني ذات مرة أحد زملاء العمل السابقين في “سمارك” يطلب مني مساعدته للانتقال إلى شركة “أرامكو” بعد أن انتقلتُ إليها. وكان لي زميل أمريكي في عملي الجديد، فحدث أن ذكر زميلي السابق السعودي لزميلي الأمريكي الجديد الأسباب التي دعته إلى السعي للانتقال، ولم يخلُ حديثه من ذكر ظروف ومساوئ العمل في “سمارك” مع الثناء على بيئة العمل في “أرامكو” التي كان يتطلع للعمل فيها.
بعد أن استمع زميلي الأمريكي لكلام زميلي السعودي، قال: “إن العشب في الجهة الأخرى دائمًا أكثر اخضرارًا”. وبتأمل مقولته هذه، يُفهم منها أنها تنطبق على الجهتين، وعلى من يقف على الجانب في كل جهة؛ ذلك لأن كلاً منهما لم يرَ الجهة الأخرى إلا عن بعد ومن الخارج فقط، ولم يرَ الصورة من الداخل وعن قرب كما رأى جهته بمحاسنها ومساوئها. حتى إذا انتقل إلى الجهة الأخرى ورآها رأي العين، وجدها إما كما تخيلها أو خلافًا لما كان يأمل.
وعلى الرغم من كون هذا المثل ضُرب فيما يتعلق ببيئة العمل، إلا أنه ينطبق على كافة مناحي الحياة، بما في ذلك الأفراد والمجتمعات والدول. فلكل منهم ظاهر يظهر للعيان عن بعد، وباطن لا يمكن رؤيته إلا عن قرب. ولكن غالبًا ما يتجه تركيز النظر إلى الظاهر فقط، وقليلًا ما يتجاوز ذلك ليغوص في الأعماق لاكتشاف ما وراء الصورة الظاهرة.
ومن يعتقد أنه يعرف شخصًا أو مجتمعًا أو أي شيء آخر من خلال الصور الظاهرة له من بعيد، فإنه لم يعرفه حق المعرفة. فعلى سبيل المثال: إن مظهر بعض الرجال المتدينين لا يعني بالضرورة أن حقيقتهم تتوافق مع ما يظهر منهم، بل قد يكون بعض المقصرين في مظهرهم الديني أفضل منهم عند الله وعند خلقه. وهذا ليس تقليلًا من شأن الالتزام بالمظهر الديني ولا دعوة لعدم الاهتمام به، ولكنه مما قد نصادفه في الحياة. فقد قيل في مثل ذلك: “صلى المصلي لأمر كان يطلبه… فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صام.”
وقد ورد في الأثر بأكثر من رواية قصة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ومن ذلك ما ورد عن أبي القاسم البغوي بإسناد حسن، والخطيب في “الكفاية”، وغيرهم عن خرشة بن أبحر قال: شهد عند عمر بن الخطاب رجل شهادة، فقال له: “لست أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك، فأتِ بمن يعرفك.” فقال رجلٌ من القوم: “أنا أعرفه.” فقال: “بأي شيء تعرفه؟” قال: “بالعدالة والفضل.” قال: “فهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟” قال: “لا.” قال: “فمعاملك في الدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع؟” قال: “لا.” قال: “فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟” قال: “لا.” قال: “لست تعرفه.” ثم قال للرجل: “ائتِ بمن يعرفك.”
وقد تخلق الصورة عن بُعد تصورًا خاطئًا، سواء بحسن الظن بمن هو مقصود بهذا التصور كما تقدم، أو بسوء الظن فيه، كما حذرنا منه رب العالمين جل جلاله بقوله في الآية (12) من سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.
وختاماً فخلاصة القول:
لا تطلق الأحكام على الناس والمجتمعات والدول دون تحقق، أو من خلال تجارب محدودة خضتها مع بعض الأشخاص أو المواقف التي واجهتها، والتي مهما بلغت لن تعبر عن الحقيقة الكاملة.