بقلم المهندس ابراهيم آل كلثم الصيعري
تدور أحداث هذه القصة في ميناء سعود، تلك القرية الهادئة التي تطل على الخليج العربي، في فترة كانت فيها في أوج تألقها. لقد مضى وقت طويل منذ مغادرتي لها، حيث انتقلت للعمل في مدينة الدمام ثم إلى الولايات المتحدة للدراسة كطالب مبتعث من قِبل بترومين في مجال التسويق.
كنت أدرس في الفصل الصيفي، ثم أعود لزيارة الأهل والأقارب خلال شهر أغسطس، الذي يمثل فترة الإجازة بين فصلي الصيف والخريف. وبطبيعة الحال، فإن الحياة لا تتوقف لأحد، وبدأت الوجوه تتغير مع مرور الوقت، حيث نشأ جيل جديد وغادر آخرون، بينما انضم سكان جدد إلى القرية.
في إحدى زياراتي خلال فترة الإجازة الدراسية، صادفت رجلاً ذو لحية كثيفة وشارب، وشعره أسود داكن. كان من يراه للوهلة الأولى يشعر بأنه يعاني من مشكلة ما، قد تكون نوعاً من التخلف العقلي، والله أعلم. كان يرتدي عدة قطع من الملابس بألوان متنوعة فوق بعضها، مما جعل مظهره يبدو غريباً بعض الشيء. وفي إحدى المرات، رأيته في المسجد وهو يخلع بعضاً من ثيابه دون أن يهتم بوجود الآخرين، وكأنما كان يقوم بإعادة ترتيب ملابسه بطريقة غير تقليدية.
لم أكن أعلم شيئًا عن الرجل، سوى أنني كنت أرى الأطفال يلاحقونه في الشوارع، يجري خلفه الصغار وهم يرددون كلمة “الحَبَلَّصْ”. لم أفهم معنى هذه الكلمة، ولا زلت لا أعرف، هل هي اسمه أم لقبه. لكنني كنت أشعر بالتعاطف تجاهه في قلبي ووجداني، رغم أنني لم أقم بأي تصرف أو فعل لمساعدته. ومع ذلك، يبدو أن الرجل كان يشعر بهذا التعاطف، كيف؟ لا أعلم. أما أنا، فقد كنت أستشعر مشاعره تجاهي من خلال نظراته إلي.
في يوم من الأيام، حدث موقف لن أنساه طوال حياتي، رغم مرور حوالي 35 عامًا على تلك الواقعة، ونحن الآن في عام 1438 هـ (2016 م). كنت أقف في صف أمام فرن الخباز الإيراني، وكان هناك رجل أمامي. عندما جاء دور هذا الرجل، بدأ يتوسل إلى الخباز، لكن الأخير رفض إعطاءه الخبز دون مقابل. وللأسف، لم يخطر ببال أحد من الحضور في تلك اللحظة أن يدفع عنه ذلك المبلغ البسيط لإدخال السرور إلى قلبه وحل مشكلته. ما خطر لي في ذلك الوقت هو أن أُشير بيدي للخباز من خلف الحَبَلَّصْ، لألفت انتباهه إلى حالة الرجل العقلية.
لكن ما صدمني حقًا هو رد فعل الرجل، حيث التفت إليّ وقال: “الله يسامحك، أنا مجنون!!”. لا يزال هذا المشهد يتردد في ذهني حتى اليوم. لقد كانت عبارته المفاجئة درسًا لن أنساه، وهو أن على الإنسان أن يكون حذرًا في كل ما يصدر عنه، سواء كان قولًا أو فعلًا. يجب ألا يستصغر أو يستبسط بعض العبارات والإشارات التي قد تجرح مشاعر الآخرين دون قصد.
إن بعض التعبيرات والعبارات البسيطة المباشرة لها القدرة على تغيير مسار حياة الأفراد بشكل كبير، إما إيجاباً فدفعهم للقمة أو سلباً فدفعهم نحو الهاوية.