الرئيسية مقالات التغافل بين رقيّ الأخلاق وخطر التواطؤ مع الباطل

التغافل بين رقيّ الأخلاق وخطر التواطؤ مع الباطل

64
0

 

الإعلامي/ خضران الزهراني

في خضم العلاقات الإنسانية وتعقيداتها، يبرز مفهوم التغافل كأحد أنبل الصفات التي يتزين بها المرء، فهو سلوك راقٍ يعكس سعة الصدر وسموّ النفس، وقدرة الإنسان على تجاوز الزلات والهفوات التي لا تمسّ جوهر الحق أو العدالة. لطالما ارتبط التغافل بالحكمة؛ إذ قيل قديمًا: “ليس الغبي بسيد في قومه، ولكن سيد قومه المتغابي”، في إشارة إلى ذلك السلوك المتعمد الذي يترفع فيه الإنسان عن الوقوف عند صغائر الأمور، حفاظًا على الود، واتقاءً للفتنة.

غير أن السؤال الأهم الذي يُطرح في هذا السياق: هل يكون التغافل دائمًا سلوكًا محمودًا؟ وهل يُعدّ من الأخلاق أن نتغافل عن الكسب غير المشروع، أو عن الظلم الذي يلحق بالغير؟ وهل الرقي الأخلاقي يبيح لنا أن نغضّ الطرف عن فساد ظاهر، أو استغلال يهدد تماسك المجتمع؟ هنا تتجلى الحاجة إلى التمييز الدقيق بين التغافل الواعي الذي يُبنى على الحكمة، والتغافل المتواطئ الذي يُبنى على التخاذل أو الجبن.

فالتغافل عن الزلات الشخصية، وعن الهفوات العابرة التي لا تتعدى حدود العلاقة الثنائية، ولا تُخلّ بمنظومة القيم، هو من مكارم الأخلاق. وهو في جوهره تربية للنفس على الرحمة والتسامح، ووعي بأن الإنسان ليس معصومًا، وأن دوام العلاقات لا يقوم على الحساب الدقيق لكل لفظ أو تصرف، بل على روح التسامح والتجاوز. في هذا السياق، يكون التغافل قوة لا ضعفًا، واتزانًا لا سذاجة.

أما حين يتحول التغافل إلى صمتٍ أمام الباطل، أو تجاهل لحقوق الغير، أو تواطؤ مع الفساد والكسب غير المشروع، فإن هذا السلوك لا يعود من الأخلاق في شيء، بل يصبح مساهمة غير مباشرة في تكريس الظلم. إذ إن التغافل في هذه الحالات يُفقد الإنسان إنسانيته، ويحوّله إلى شاهد زور يلبس ثوب الصمت، باسم التسامح والرقي. إن ترك الظالم دون مساءلة، أو السكوت عن مال يُكسب بغير حق، هو خيانة للقيم قبل أن يكون تقصيرًا في أداء الواجب.

أنواع التغافل وسَماته

ولأن التغافل ليس سلوكًا واحدًا بسيطًا، بل يتخذ أشكالًا متعددة، فإن من المهم التمييز بين سماذجه أو أنماطه، لنفهم متى يكون التغافل خلقًا نبيلًا، ومتى يتحول إلى ضعف أو تواطؤ.

1. التغافل الحكيم:

تغافل نابع من وعي وبصيرة، يُمارسه الإنسان بقصد الحفاظ على العلاقات أو درء فتنة أكبر. يتسم بالسيطرة على النفس، والقدرة على إدراك الوقت المناسب للتجاوز.

2. التغافل التربوي:

يُستخدم في التربية والتعليم، حين يتجاهل المربي بعض الأخطاء الصغيرة لتشجيع المتعلم على النمو دون خوف مفرط أو كبت.

3. التغافل الجبان:

نابع من خوف أو ضعف، يختبئ فيه الإنسان وراء الصمت خشية المواجهة، وهو تواطؤ لا يُغتفر حين يتعلق بالحقوق والعدل.

4. التغافل المصلحي أو الانتهازي:

عندما يتغافل الشخص عن الباطل لأنه ينتفع منه، أو يترقب مكسبًا من وراء سكوته. هذا السلوك يُفقد صاحبه النزاهة والمروءة.

5. التغافل الكسول أو اللامبالي:

حيث يتجاهل الإنسان كل ما حوله بدعوى عدم التدخل، بينما الحقيقة أنه يتهرب من مسؤوليته الاجتماعية والإنسانية.

الحذر من الحاسدين والمتزلفين

ومن أخطر ما قد يواجهه الإنسان في سعيه للأخلاق الرفيعة والتعامل الراقي، أن يُحاط بأشخاص لا يُظهرون نياتهم الحقيقية: الحاسدون، والمتزلفون، والكاذبون.

فالحاسد لا يريد لك الخير، وإن بدا صامتًا، فهو يتربص بزلاتك، ويتمنى زوال نعمتك. والمتزلف يمدحك ظاهرًا ويطعن فيك باطنًا، يتقرب لك حين يرى مصلحة، ويبتعد عنك إذا ما تلاشى المكسب.

أما الكاذب، فهو أخطر الجميع، لأنه يزيّف الواقع، ويُلبس الحق بالباطل، ويوهمك أن الشر خير، وأن الخطأ صواب. هؤلاء جميعًا لا يُناسبهم التغافل، بل يجب الحذر منهم، وكشف نواياهم، ومواجهتهم بالصدق والحكمة. فالتسامح لا يعني الوثوق بالأعداء، ولا يعني تزيين النفاق باسم الأخلاق.

الخاتمة

الرقي الأخلاقي لا يعني أن نتغافل عن كل شيء، بل أن نزن الأمور بميزان الحكمة. فليس كل صمت حكمة، ولا كل تجاهل نبلًا. بين السماحة في العلاقات، والصلابة في مواجهة الفساد، تتحدد قيمة الإنسان.

التغافل فنٌ عظيم إذا ارتبط بالنية الطيبة، لكنه يتحول إلى جريمة صامتة إذا خُلط بالمصالح، أو استُخدم للهروب من قول الحق. فكن حكيمًا في تغافلك، واعرف متى تصمت ومتى تتكلم، ومتى تصفح ومتى تحذر، فذلك هو الرقي الحقيقي.