الرئيسية مقالات حين يتحدث الجرح: بين الاستغلال والاستغفال ونكران الجميل

حين يتحدث الجرح: بين الاستغلال والاستغفال ونكران الجميل

320
0

 

بقلم: أحمد علي بكري

قرأتُ مؤخرًا عبارة خطّها الزميل الأستاذ كمال على صفحته في فيسبوك، جاء فيها:

«أسوأ ما في البشرية: الاستغلال، ثم الاستغفال، ثم الاستغناء، ثم نكران الجميل».

فتوقفت عندها طويلًا، كأن الزمن توقف ليمنحني فرصة تأمل عميقة. إنها ليست مجرد عبارة عابرة، بل سطرٌ يشبه مرآة لحياةٍ كاملة، يُجسّد حكايات قلوب أنهكتها الطعنات من أقرب الناس.

هذه الكلمات الأربع – رغم بساطتها – ترسم خريطةً مؤلمة لمسارٍ متكرر في علاقات البشر. تبدأ الرحلة بـ الاستغلال: حين يقترب منك البعض لا بدافع المحبة أو الاحترام، بل لأنهم رأوا فيك مكسبًا. يلبسون ثياب الودّ، ويتقنون تمثيل القرب، بينما تخفي دواخلهم نوايا قائمة على الأخذ لا العطاء. ينهلون من وقتك، ومن قلبك، ومن طاقتك… دون أن يُدركوا حجم ما يستهلكونه من روحك.

ثم يتسلل الاستغفال بهدوء ودهاء. هنا، تتحول الطيبة إلى “سذاجة”، والثقة إلى “غباء”، وكأن الخطأ ليس فيهم بل فيك! كيف لك أن تحسن الظن؟ كيف لك أن تمنح؟ كيف سمحت لنفسك أن ترى النقاء في وجوهٍ لا تعرف سوى المصالح؟

ويبدأون بإلقاء اللوم على ضحيتهم، في مشهد عبثي يُعيد تعريف المظلومية: “أنت المخطئ لأنك صدقتنا”، وكأن الطهر في نيتك كان جريمة تُحاسب عليها.

وحين يفرغون من حاجتهم، تحلّ لحظة الاستغناء، فتراهم يغادرون بصمتٍ بارد، دون وداع أو شكر، وكأنك لم تكن شيئًا في يومٍ من الأيام. كأن كلّ لحظة عطاء منحتها لهم، وكل كلمة طمأنتهم بها، وكل تضحية خفية لم تكن سوى وهم في ذاكرتهم.

لكن المشهد لا يكتمل إلا بالضربة الأقسى: نكران الجميل. هنا، لا يكتفون بالنسيان، بل يُحرّفون الوقائع، وينكرون المعروف، بل وقد يتطاولون عليك. يقدّمون أنفسهم كضحايا، ويُشككون في دوافعك، بل وربما شوّهوا صورتك أمام الآخرين. وهنا، يتساءل القلب:

كيف ليدٍ أمسكت بهم في لحظات ضعف، أن تُقابل بالخذلان؟

كيف تُنسى الليالي التي قضيتها تفكر فيهم، وتواسي آلامهم، وتفرح لفرحهم؟

كيف يتحوّل المعروف إلى تهمة، والحب إلى عبء، والوفاء إلى ضعف في نظرهم؟

ومع كل ذلك، تبقى الحقيقة التي لا تُمحى ولا تتبدد:

الوفاء لا يُقاس بردّ الجميل، بل بجوهر النفس.

الخير لا يُوزن بتقدير الآخرين له، بل بإخلاص نوايا من يقدمه.

قد يؤلمنا الجحود، وقد يُرهقنا خذلان من وثقنا بهم، لكننا لا نحسن لأنهم يستحقون، بل لأننا نحن لا نعرف غير الإحسان.

نُعطي لأن العطاء جزءٌ من تكويننا، ولأن القلوب النبيلة لا تُغيّرها الخيبات، بل تُصقلها، وتجعلها أكثر حكمةً وتمييزًا.

فالجرح ليس نهاية الرحلة، بل درسٌ عميق يهمس لنا:

اختر لمن تعطي قلبك، لا بدافع الخوف من الخيانة، بل حرصًا على سلامتك.

قدّم الخير، لكن لا تُفرّط في كرامتك.

سامح، لكن لا تُسلّم نفسك لكل من ابتسم.

ورغم كثرة من يستغلون ويستغفلون وينكرون، يبقى في هذه الأرض قلوب نادرة، تحفظ المعروف، وتردّ العطاء بعطاء، وتُعيد للإنسانية معناها.

وفي النهاية، تذكّر صديقي:

ما يفعله الآخرون لا يُحدّد قيمتك، بل يعكس أخلاقهم.

لا تدع قبحهم يُطفئ نورك، ولا تجعل خذلانهم يدفعك إلى أن تُشبههم.

اصنع الخير لأنك إنسان، ولأن الطيبين – وإن قلّوا – ما زالوا بيننا، وما زالت الحياة تستحق أن نعيشها بقلوبٍ نظيفة.

امنح، وساعد، وكن وفيًا… لا لأنهم أهلٌ لذلك، بل لأنك أنت أهل للسمو.

فالقلوب الأصيلة لا تنتظر الثناء، بل تزرع الخير لأن فيها نورًا لا ينطفئ.