بقلم: أحمد علي بكري
قال الدكتور غازي القصيبي – رحمه الله –: «أفسدنا متعة من متع الحياة عندما تفاخرنا بتقديم الضيافة، وأفسدت فرحة اللقاء وأصبح التزاور همًّا بعد أن كان سرورًا».
كلمات تبدو عابرة، لكنها في حقيقتها صرخة مكتومة، وحنين جارف إلى زمن لم تلوثه زخارف الحياة، ولم تخنقه بروتوكولات التكلّف والمباهاة.
البدايات النقية
في ذاكرة الطفولة، كانت الزيارة حدثًا صغيرًا يضيء البيت:
يطرق الضيف الباب، فيهرع الأطفال مبتهجين، ويمتد بساط بسيط على الأرض، وتدور فناجين القهوة بين الأيدي، يرافقها حديثٌ شفيف كالماء الجاري.
لم تكن الموائد الممتدة ولا الأطباق المتعددة شرطًا في اللقاء؛ كان يكفي أن يُفتح الباب بابتسامة صافية، وأن يُمدّ المقعد بخشوع المحبة.
كان الناس يزور بعضهم بعضًا ليستدفئوا بقلوبهم، لا ليملؤوا بطونهم. وكان الجوع الحقيقي هو جوع الروح إلى الأنس، والعطش الصادق هو عطش القلب إلى مودة اللقاء.
التحوّل الثقيل
لكن شيئًا ما تبدّل…
دخلت المباهاة إلى بيوتنا كما يدخل الغبار إلى النافذة المفتوحة: خفية في البداية، ثم كثيفة خانقة.
صار الكرم يُقاس بما يُرصّ على المائدة، لا بما يفيض من القلب. وصار الضيف يخشى أن يُثقِل، وصار المضيف يتوجّس من الضيف كما لو كان امتحانًا لا بد أن يجتازه.
لقد أفسدنا سرور الزيارة حين جعلناها استعراضًا، وأضعنا لذّة اللقاء حين كبّلناه بالتكلف.
المعنى الأصيل للكرم
يقول القصيبي:
«ما أجمل البساطة والتواضع، فالناس لم يذهبوا لبعض من مجاعة ليأكلوا ما لذ وطاب عندهم، إنما ذهبوا للأنس».
يا لها من كلمات! كأنها رنين جرس يذكّرنا بما نسيناه: أن الكرم ليس في امتلاء المائدة، بل في امتلاء العين من البِشر، وامتلاء القلب من المودة.
فلو قدّم الإنسان لصديقه فنجان قهوة واحدة، مقرونة بابتسامة صافية، لكانت أعظم عند الله وعند الناس من مائدة تزدان بألوان الطعام، بينما تخلو الأرواح من الصفاء.
آثار المبالغة
لقد صنعنا بأنفسنا جدارًا بيننا وبين بعضنا:
فالمضيف يرهق نفسه بما فوق طاقته، حتى صار يخاف الزيارة بدل أن يترقبها.
والضيف يتردد، يخشى أن يكلّف صديقه أو قريبه عناءً لا داعي له.
واللقاء الذي كان في الأمس فرحًا، أصبح اليوم ثِقلاً يؤجَّل، أو موعدًا يُلغى، أو صلةً تنقطع.
وهكذا، ماتت الزيارات الصغيرة، وتراجعت مجالس الأنس، وقلّ الترابط الذي كان يمدّ المجتمع بأواصر القوة والرحمة.
العودة إلى البساطة
إننا في زمن ازدادت فيه العزلة، وتراجعت فيه الروابط، أحوج ما نكون إلى استعادة تلك الروح البسيطة التي كانت تجمع الأجداد.
لنعد إلى الفطرة:
ابتسامة أوسع من الموائد.
كلمة طيبة أعمق من صحون الأطعمة.
لحظة صفاء تغني عن ساعات من التكلّف.
فالضيف لم يأتِ ليُختبر كرمك، بل جاء ليشاركك دفء الحديث.
والزيارة ليست ساحة منافسة، بل حضن مؤنس يُلقي فيه المرء تعب يومه، ويخرج منه أخفّ قلبًا وأصفى روحًا.
خاتمة
رحم الله الدكتور غازي القصيبي، فقد أدرك بحسّه المرهف أن التكلّف في الضيافة ليس مجرد عادة اجتماعية، بل مرضٌ يأكل من رصيدنا الإنساني، ويُفرغ لقاءاتنا من معناها. ترك لنا وصية لعلها تبدو بسيطة، لكنها عظيمة:
عودوا إلى البساطة، عودوا إلى التواضع، عودوا إلى اللقاء الذي يبتسم القلب فيه قبل أن تمتلئ الصحون.
فإذا فعلنا، عادت الزيارة كما كانت: بهجة لا عبء، ووصالًا لا فصالًا، ودواءً للروح لا داءً للجسد.






