✍️ بقلم: أحمد علي بكري
لم يعد المشهد الإعلامي كما كان قبل عقدين من الزمن، حين كان النجم يُعرف بموهبته، والمشهور يسطع اسمه بإنجازه، والشخصية المؤثرة تُقاس قيمتها بما تقدمه من علم أو فن أو فكر أو خدمة للمجتمع. اليوم، ومع الانفجار الرقمي وسهولة الوصول إلى منصات التواصل الاجتماعي، وُلد جيل جديد من “المشاهير” الذين لم يحملوا في جعبتهم سوى خواء يُلمّع بالصورة المفلترة، ومقاطع لا تحمل رسالة أعمق من ضحكة مفتعلة أو مشهد عبثي. هؤلاء هم الذين بات المجتمع يطلق عليهم اسم “مشاهير الفلس”.
إنهم لا يبيعون منتجًا حقيقيًا، ولا يقدمون قيمة معرفية أو جمالية، بل يتاجرون بالفراغ، ويحوّلون تفاصيل حياتهم اليومية التافهة إلى مادة رائجة تجذب الملايين من المتابعين. وهنا تكمن الكارثة؛ إذ يتحول هؤلاء سريعًا إلى قدوات وهمية لأبنائنا وبناتنا، ينهلون منهم سلوكياتهم، ويقيسون النجاح على معيار “عدد المتابعين”، ويظنون أن السعادة تختصر في مظاهر الترف الاستعراضي والتباهي بالماركات والسيارات والرحلات.
لقد جاءت حملة إلغاء متابعة مشاهير الفلس كصرخة وعي من داخل المجتمع، صرخة تقول: كفى! كفى استنزافًا لعقول الجيل، وكفى تزييفًا للقدوات، وكفى تطبيعًا مع التفاهة على أنها إنجاز. هذه الحملة ليست دعوة للمنع أو الحجر على حرية أحد، بل هي محاولة لإنقاذ البوصلة، وإعادة ضبط الاتجاه نحو قدوات حقيقية من العلماء، والمفكرين، ورواد الأعمال، والمبدعين الذين تصنع سيرتهم إلهامًا صادقًا للأجيال.
إن المتابع حين يُلغي متابعة هؤلاء لا يخسر شيئًا، بل هو يربح. يربح وقتًا كان يضيع في متابعة اللاشيء، ويربح عقلًا كان يتشوه بمفاهيم سطحية، ويربح قلبًا كان يتشبع بقيم استهلاكية مريضة. والأهم من ذلك كله، أنه يشارك في مسؤولية جماعية تجاه الأجيال القادمة، لأن التربية لم تعد محصورة داخل أسوار البيت أو المدرسة، بل أصبحت الشاشات الصغيرة شريكًا أساسيًا في صناعة الوعي والوجدان.
ولو تأملنا قليلًا في خطورة هؤلاء “المشاهير”، لوجدنا أنهم لا يقفون عند حدود العبث فحسب، بل يرسّخون قيمًا مشوهة: حب الظهور بلا استحقاق، البحث عن الشهرة بأي ثمن، والتعلق بالمظاهر على حساب الجوهر. قيم إذا ترسخت في نفوس جيل كامل، فلن نرى إلا أفرادًا يطاردون السراب، ويهجرون ميادين الجد والاجتهاد، ويظنون أن “الفلس المزيّن” طريقٌ إلى النجاح.
من هنا، فإن الحملة ليست مجرد وسم على منصة اجتماعية، بل هي مشروع وعي، مشروع يعيد تشكيل العلاقة بين المتلقي وما يستهلكه من محتوى. إننا لا ندعو فقط إلى إلغاء المتابعة، بل ندعو إلى استبدالها بمتابعة من يستحق: طبيب يلهم الأمل، معلم يغرس القيم، فنان حقيقي يزرع الجمال، كاتب يحرك الفكر، ورائد أعمال يصنع فرصًا.
ختامًا، يمكن القول إن مقاطعة مشاهير الفلس هي بداية الطريق نحو نهضة فكرية وأخلاقية. هي وقفة مسؤولية أمام جيل كامل نريد له أن يكبر وهو يحمل في قلبه طموحًا صادقًا، وفي عقله فكرًا سليمًا، وفي عينيه قدوات من نور لا من زيف. فلتكن خطوتنا اليوم إلغاء متابعة تافه، لنربح غدًا جيلًا يليق بمستقبل الوطن






