القاضي و المتهم و وقفة إنسانية نبيلة
قصة حقيقية يرويها القاضي بنفسه
كتبها المهندس ابراهيم آل كلثم الصيعري
تشرفت ذات يوم بزيارة أحد القضاة الفضلاء، فجرى بيننا حديث حول العدل والقضاء.
فذكرت لفضيلة القاضي أنه كان قد جرى بيني وبين قضاة آخرين نقاش حول رؤيتي لدور القاضي لإحقاق الحق ورد المظلمة وليس الحكم فقط على نحو مما يسمع، فقد يكون أحد المتخاصمين أبلغ بحجته من صاحب حق أو من متهم بريء، فكان في رأيي أنه ينبغي أن يكون حياد القاضي بين المتخاصمين فقط، وليس بين الحق وضده، فيحتال لنصرة الحق متى ما عرفه أو غلب على ظنه، كما فعل القاضي إياس بن معاوية بن قُرِّةَ المزني المولود سنة ٤٦ للهجرة.
لما ولِيَ القضاءَ جاءه رجلان يتقاضيان عنده، فادَّعى أحدُهما أنه أودع عند صاحبه مالا، فلما طلبه منه جحده، فسأل إياسُ الرجلَ المدَّعَى عليه عن أمر الوديعة فأنكرها، وقال : إن كانت لصاحبي بيِّنة فليأتِ بها، وإلا فليس له عليَّ إلا اليمين.
فلما خاف إياسٌ أن يأكل الرجلُ المالَ بيمينه التفت إلى المودِع، وقال له: في أيِّ مكان أودعته المالَ ؟ قال : في مكان كذا، قال: وماذا يوجد في ذلك المكان ؟ قال: شجرة كبيرة جلسنا تحتها، وتناولنا الطعام معًا في ظلِّها، ولما هممنا بالانصراف دفعتُ إليه المالَ، فقال له إياسٌ: انطلِق إلى المكان الذي فيه الشجرة فلعلَّك إذا أتيتها ذكَّرتك أين وضعت مالك، ونبَّهتْك إلى ما فعلته به، فجعل المدَّعي يذهب إلى الشجرة، وأوهمَ المتَّهم أنه بريء، قال : ثم عُد إليَّ لتخبرني بما رأيت.
فانطلق الرجل إلى المكان، وقال إياس للمدَّعى عليه : اجلس إلى أن يجيء صاحبُك، فجلس، ثم التفت إياس إلى من عنده من المتقاضين، وأخذ يقضي بينهم، وهو يرقب الرجل بطرفٍ خفيٍّ، حتى إذا رآه قد ارتاحت نفسُه وكأنه صار بريئا، واطمأن، التفت إليه وسأله على عجل: أتقدِّر أن صاحبك قد بلغ الموضع الذي أعطاك فيه المال ؟ هل تقدِّر أنه وصل إليه ؟ قال له : لا إنه بعيد من هنا، فقال له إياس : يا عدوَّ الله تجحد المالَ، وتعرف المكان الذي أخذته فيه، واللهِ إنك لخائن، فبُهِت الرجل، وأقرَّ بخيانته، فحبسه حتى جاء صاحبُه، وأمره بردِّ وديعته إليه.
وهنا حكى لي فضيلة القاضي عن قضية وردت إليه وحكم فيها، فيقول فضيلة القاضي:
قبل العيد بأيام أُتي إلي بشابٍ متهم بترويج المخدرات، وكان الشاب مُصِرَّاً على براءته وأنه ضحية لخديعة من أحد أصحابه، فيقول الشاب: أخبرني زميلٌ لي بأنه لن يكون موجوداً عندما يأتي صديقٌ له لاستلام علبة دواء من عنده، فطلب مني تسليمها له نيابةً عنه عندما يأتي لأخذها.
قبل الشاب برحابة صدر القيام بهذه الخدمة تقديراً للصداقة التي بينهما، وأخذ علبة الدواء ووضعها على التلفزيون وتركها هناك بانتظار وصول المستلم، وهكذا بعد فترة اتصل شخص على الشاب وأخبره بأنه من طرف فلان وأنه قد أتى لاستلام علبة الدواء، وطلب منه أن يقابله في المكان الفلاني، فأخذ الشاب علبة الدواء وتوجه بها إلى المكان الذي ينتظره فيه الرجل، وما إن تقابلا حتى أدى إليه الأمانة وهم بالإنصراف، غير أن الرجل أعطاه مبلغاً من المال، فرفض الشاب أخذ مقابل لخدمته صديقه.
أصر الرجل على أن يأخذ الشاب المال تقديراً له على ما بذله، وأمام هذا الإصرار من الرجل لم يجد الشاب بداً من أخذ المبلغ، وما إن هم بالإنصراف إلا وقد حاوطه رجال مكافحة المخدرات وتم القبض عليه بالجرم المشهود، فقد اكتملت أركان الجريمة من استلام وتسليم.
حضر والد ووالدة الشاب أمام القاضي، وأكد والده للقاضي بأنه بالفعل كان يشاهد العلبة موضوعة على التلفزيون، ولو كان يعلم ما بها لتخلص منها، وأضاف الوالد بأنه كان أحد رجال الجيش على الحدود وأصيب في الحرب إصابةً بالغة أعاقته عن الاستمرار في عمله فأُحيل للتقاعد، وأن إبنه هذا هو الوحيد من بين خمسٍ من البنات وأنه مُعينه الوحيد بعد الله.
لقد كانت كل الأدلة ضد الشاب، وأمه وأباه منهاران خوفاً على مصير إبنهما، حاول القاضي إفهامهما حقيقة الوضع وملابساته، وما إن بدأ فضيلة القاضي بتوضيح أن الأدلة جميعها تدين الأبن بالجرم المشهود، وما هو مقدار العقوبة المحددة في النظام التي يمكن أن يحكم بها عليه، حتى تغير لون وجه الأب إلى السواد وبدأ ينهار والأم بدأت دموعها تبلل خمارها وتتمتم بكلمات غير مسموعة، فلما رأى القاضي ما وصل إليه حال الأب خشي عليه من أن يتعرض لسكتة قلبية قد تتسبب له بإعاقة أو تودي بحياته، فبادر القاضي فوراً بتهدئة الوالد معطياً له الأمل ببراءة ابنه، وفي النهاية تولدت لدى القاضي القناعة وغلب على ظنه احتمال براءة الشاب وأنه قد خُدع من قبل صاحبه.
وعندها تذكر القاضي أننا على أبواب العيد وأسبوع العمل على نهايته، فعندما اجتمع القضاة لتداول الحكم في القضية، أقسم فضيلة القاضي بأنه يشعر بأن هذا المتهم قد خُدع ويجب أن لا يبات هذا الشاب يوماً واحداً في الحجز وأن يطلق سراحه بأسرع وقت، فقررت المحكمة إثبات إدانته وإيقاع العقوبة المقررة نظاماً مع وقف التنفيذ والإفراج عنه حالاً.
وما إن سمع والدا الشباب النطق بالحكم حتى خرت والدته ساجدةً شكراً لله وهي تبكي، بينما قام والده برمي غترته و احتضان القاضي بقوة وأجهش بالبكاء بصوت مرتفع، وبعدما هدأ قال: لقد علمت أن الله لن يخذلني، فقبل يومين من الجلسة أخذت عائلتي للعمرة لندعو الله ونطلبه أن يظهر الحق وأن يفرج عن ابني ما هو فيه، وفي الثلث الأخير من الليل التزمت أنا ووالدته استار الكعبة وعند الملتزم سألت الله أن يسخر لنا شخص لا نعرفه يكون الفرج على يديه، فلم يخطر ببالي أن يكون هذا الشخص هو أنت ناظر القضية فاللهم لك الحمد.
وهكذا تم إطلاق سراح الشاب ليقضي العيد بين أهله وذوي، لتكتمل حكاية القاضي الفاضل مع الشاب المتهم، والتي استشعر القاضي فيها بإنسانيته براءة هذا الشاب فجزاه الله خير الجزاء.