بقلم / علي المعشي
لطالما لعبت الترجمة دورًا محوريًا في نقل الأفكار والثقافات، إلا أن هذه الوسيلة التي يُفترض أن تقرّب بين الشعوب كثيرًا ما تحولت إلى أداة تشويه وإثارة للجدل، خاصة عندما يتعلق الأمر بأحاديث الساسة والقادة والمشاهير. فكثيرًا ما تُنقل تصريحات مشوهة أو محرفة، إما بسبب أخطاء في الترجمة أو نتيجة تلاعب متعمد يخدم أجندات معينة. وهذا لا يقتصر على اللغات المختلفة فحسب، بل قد يحدث حتى داخل اللغة الواحدة عندما يتم اجتزاء العبارات من سياقها أو تحميلها معاني غير مقصودة.
في عالم السياسة، يمكن أن تؤدي الترجمة المغلوطة إلى أزمات دبلوماسية كبرى. أحد أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث عام 1956 عندما ألقى الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف خطابًا شهيرًا، تُرجمت إحدى عباراته إلى الإنجليزية على أنها تهديد مباشر للغرب، حيث نُقل عنه قوله: “سوف ندفنكم” (We will bury you)، مما أثار موجة من الذعر في الولايات المتحدة خلال ذروة الحرب الباردة. لكن في الواقع، كان المقصود من عبارته أن الشيوعية ستتفوق اقتصاديًا على الرأسمالية، وليس أن الاتحاد السوفييتي سيقضي فعليًا على الغرب. ومع ذلك، استُخدمت هذه الترجمة لتأجيج العداء بين المعسكرين.
مثال آخر هو التصريح الشهير للرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد عام 2005، حيث نُقل عنه أنه قال: “إسرائيل يجب أن تُمحى من على وجه الخريطة”، مما أثار إدانات دولية واسعة. لكن عند الرجوع إلى النص الأصلي بالفارسية، نجد أن التصريح كان أقرب إلى اقتباس من آية الله الخميني، حيث قال إن “النظام الصهيوني سيزول من صفحات التاريخ”، وهو تعبير يختلف في دلالته تمامًا عن التهديد العسكري المباشر. لكن الترجمة المغلوطة استُخدمت لتعزيز صورة إيران كدولة معادية تهدد وجود إسرائيل.
وفي عالم المشاهير، تعرض الممثل الصيني جاكي شان عام 2009 لسوء فهم كبير عندما تحدث عن الحرية في الصين خلال منتدى اقتصادي في جزيرة هاينان. نُقلت تصريحاته على أنه قال: “الصينيون بحاجة إلى أن يكونوا تحت السيطرة وإلا سيعم الفوضى”، مما أثار موجة من الانتقادات داخل الصين وخارجها. لكن المراجعة الدقيقة لما قاله أظهرت أنه كان يتحدث عن مخاطر التطرف في بعض الدول، وليس عن رفضه لمبدأ الحرية.
حتى في القضايا الاجتماعية، قد تؤدي الترجمة الخاطئة إلى أزمات لا داعي لها. على سبيل المثال، في عام 2018، تعرض النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو لانتقادات واسعة بعد أن نُسب إليه تصريح مفاده أنه “أفضل لاعب في التاريخ”، بينما كان حديثه الأصلي بالبرتغالية يحمل معنى أكثر تواضعًا، حيث قال إنه يرى نفسه من بين الأفضل، لكنه لا يستطيع الحكم بشكل قاطع. الترجمة المبالغ فيها أشعلت جدلًا واسعًا، وكأن اللاعب كان يدّعي التفوق المطلق.
هذه الأحداث زادت خطورتها اليوم مع ما استحدثه العالم الرقمي اليوم من الذكاء الاصطناعي الذي بات قادراً على تقمص الشخصيات وتبني الآراء والأفكار مما يجعل الساحة الإعلامية اليوم مسرحاً للتلاعب والمغالطات مالم تكن لدى المتلقي الوعي الكافي لاستكشاف الحقائق وعدم الانجراف وراء الوهم.
كما أن برامج التواصل ذات النطاق الواسع والتي تتمتع بحرية شبه كاملة في التعاطي مع الأحداث ونقلها بصيغ وصور متنوعة قامت تشكل جبهة اعلامية واسعة الانتشار وهي كذلك مظنة الاستغلال لتصفية الحسابات وخلط الأوراق أيضاً.
إن خطورة الترجمة المغلوطة لا تكمن فقط في التشويه اللحظي لصورة المتحدث، بل في تأثيرها طويل المدى على العلاقات الدولية، وصناعة الرأي العام، وحتى على كتابة التاريخ. ولذلك، لا بد من التعامل مع التصريحات بعين الناقد، والبحث عن المصادر الأصلية، والتأكد من صحة الترجمات قبل إصدار الأحكام أو بناء المواقف. فالكلمة المترجمة قد تكون جسرًا للتفاهم، أو أداة للتضليل، ويبقى الاختيار بيد من ينقلها ومن يتلقاها.