بقلم: أحمد علي بكري
مع تسارع تطور وسائل الاتصال وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح العالم قرية رقمية مفتوحة، تتداخل فيها الثقافات وتتنافس فيها الأيديولوجيات والمصالح. هذا الانفتاح، على الرغم من مزاياه في تسهيل الوصول إلى المعلومة وتبادل الخبرات، شكّل تحديًا غير مسبوق للأمن الفكري في المجتمعات، وخاصة في الدول التي تشهد تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية متسارعة.
في هذا السياق، لم تعد الحروب المعاصرة تُخاض بالسلاح فقط، بل أصبحت المعركة الأساسية تدور في ميدان الفكر. حيث تستهدف الحملات الموجهة والممولة خارجيًا العقل قبل الجسد، وتعمل بطرق ممنهجة على بث الشكوك، وتقويض القيم، وتشويه الرموز، وبث الفتن داخل النسيج الوطني الواحد.
الأجندات الخفية على وسائل التواصل:
تعمل العديد من الجهات الخارجية — سواء كانت دولًا أو منظمات — على استخدام وسائل التواصل كأداة رئيسية لبث رسائلها الفكرية والسياسية. وغالبًا ما تكون هذه الرسائل مغلفة بشعارات براقة مثل “الحرية” و”حقوق الإنسان” و”التنوير”، لكنها في جوهرها تهدف إلى تفكيك الهويات الوطنية والدينية، وإعادة تشكيل الوعي الجمعي بما يخدم مصالح تلك الأطراف.
ومن أبرز ما تستهدفه هذه الحملات:
التشكيك في الرموز الوطنية والدينية عبر حملات تشويه متعمدة، تتعمد الإساءة أو السخرية من الشخصيات القيادية والعلمية والدعوية المؤثرة.
نشر الإلحاد والتطرف الفكري معًا، في مفارقة عجيبة توضح أن الغاية ليست إقناعًا أيديولوجيًا بقدر ما هي زعزعة وانقسام.
تحريف المفاهيم الوطنية، وتقديمها كأنها أدوات قمع أو استبداد، لتفريغها من مضمونها الإيجابي وتحويلها إلى مادة للرفض والازدراء.
خلق حالة استقطاب داخلي، حيث يُدفع الشباب إلى الاصطفاف في قضايا هامشية أو مفبركة تُثير الجدل وتستهلك الجهد والوقت والوعي.
لماذا الشباب في دائرة الاستهداف؟
لأنهم يشكلون غالبية المجتمعات العربية، وهم عماد المستقبل وصانعو القرار في الغد، ولأنهم أكثر الفئات استخدامًا وتفاعلًا مع المنصات الرقمية، فإنهم يُعتبرون الهدف المفضل لهذه الأجندات. كما أن بعضهم يعاني من فجوة معرفية أو ضعف في التكوين الفكري الديني والوطني، ما يجعلهم عرضة للاستدراج خلف الأفكار المتطرفة أو المضللة.
الأمن الفكري: خط الدفاع الأول:
إن الأمن الفكري لا يعني فرض وصاية على العقول، بل هو منظومة متكاملة تهدف إلى تحصين المجتمع من الداخل، وخلق وعي نقدي قادر على التمييز بين الصواب والخطأ، وبين النقد البناء والهدم الممنهج.
ويتحقق الأمن الفكري من خلال عدة محاور:
تعليم شامل يعزز الانتماء: إدماج مفاهيم الهوية الوطنية والدينية بطريقة واقعية وعميقة في المناهج التعليمية، بعيدًا عن الحشو النظري، مع ربطها بالواقع المعاصر.
خطاب إعلامي مسؤول: يتعامل مع الشباب بلغتهم، ويرد على شبهاتهم بموضوعية، ويبتعد عن خطاب التخوين والتسطيح، ويقدم القدوة والنموذج بدلًا من التوبيخ والاتهام.
بيئة رقمية منضبطة: تُراقب فيها المنصات بما يحمي حرية التعبير دون السماح بالتحريض أو ترويج المحتوى الهدام، مع تفعيل قوانين مكافحة الشائعات والتضليل الإعلامي.
التمكين الثقافي للشباب: عبر فتح المسارات أمامهم للمشاركة في الحوار الوطني، والتطوع في حملات التوعية، والمساهمة في إنتاج محتوى إيجابي عبر الوسائط الحديثة.
الرموز الوطنية ليست خطًا أحمر فحسب، بل دعامة استقرار:
من أبرز ما تستهدفه الحملات الخارجية هو النيل من رموز الدول: السياسية، والدينية، والعلمية. ولا يُقصد بالرمز فقط الأشخاص، بل أيضًا المؤسسات الوطنية كالجيش، والقضاء، والتعليم، ورجال الدين المعتدلين. وهذا الهجوم ليس عفويًا، بل يُبنى على استراتيجية “فك الثقة”، فإذا فقد الناس ثقتهم بقياداتهم ومراجعهم، أصبحوا فريسة سهلة لأي مشروع فكري بديل، مهما كانت دوافعه مريبة.
خاتما حماية العقول مسؤولية الجميع:
إن معركة الأمن الفكري لا تخوضها الحكومات وحدها، بل تتطلب تضافر جهود المؤسسات، والأسر، والمثقفين، ورجال الدين، والإعلاميين، والأهم من ذلك: الشباب أنفسهم. فكل فرد أصبح اليوم مسؤولًا عن الوعي، سواء بنشره، أو الدفاع عنه، أو الحذر من الوقوع ضحية لهجمات تستهدف زعزعة استقرار المجتمعات من جذورها.
لقد آن الأوان أن ندرك أن أمن الأوطان يبدأ من أمن الأفكار، وأن الحرب التي لا يُسمع فيها صوت الرصاص، قد تكون أعمق أثرًا إذا اخترقت العقول دون أن يشعر أصحابها.