بقلم:أحمد علي بكري
في لحظات من الحنان الفطري أو الشهامة الفطرية، نمنح من نحبهم شيئًا من راحتنا، ونرفع عنهم بعضًا من الأعباء، دون انتظار مقابل. ولكن ما لا ندركه في حينها أن التكرار بلا وعي قد يُحوّل المعروف إلى واجب، والجميل إلى استحقاق، والفضل إلى حقٍّ مُسلَّم به.
الفنان ماجد الكدواني، بأسلوبه الصادق والبسيط، روى سلسلة مواقف مألوفة، لكنها كاشفة. تحدّث عن ابنه الذي نسي شحن هاتفه فقام الأب بالمهمة عنه، فشكره بدايةً. ثم حين تكرّر الفعل، أصبح الشكر أقل. وفي اليوم الذي لم يشحن فيه الهاتف، استيقظ الابن معاتبًا، كأن التقصير جريمة. لم يعد الشحن معروفًا، بل “واجبًا” لم يُؤدّ.
وتتكرر القصة مع ابنته التي ما إن تولّى الأب ترتيب سريرها لأيام، حتى تخلّت عن هذه المسؤولية تمامًا، وكأنها لم تكن يومًا من مهامها. ومع صديقٍ طالما اعتاد الاتصال والسؤال، ثم لاحت له وعكة صحية جعلته يغيب يومًا، فإذا بالصديق عاتب ولائم!
بل يتسع المشهد ليصل إلى زميل العمل الذي انفجر غضبًا مرارًا دون رد، فظن أن صمت الزميل الآخر إقرار، واعتاد الصراخ وكأنه لغة طبيعية في التعامل. وحتى في القضايا المالية، كصديقٍ تنازل عن نصيبه من الإيجار شهورًا، فلما احتاجه يومًا، كان عليه أن يبرّر حاجته، وكأن حقه صار غريبًا عنهم.
هذه الحكايات، وغيرها كثير، تبرهن على حقيقة واحدة: حين تكثر التنازلات من دون توضيح، تتحول في عيون الآخرين إلى “حقوق مكتسبة”. فلا يرون العطاء تضحية، ولا الفضل معروفًا، بل واجبًا إن فُقِد ساء الظن، وإن حضر نُسي الفضل.
نحن لا نقول: لا تفعل الخير. بل نقول: لا تُلغِ نفسك وأنت تفعل الخير. لا تجعل الطيبة عبودية. لا تسمح للعطاء أن يُحوِّلك إلى واجب غير مقدَّر.
ففي كثير من الأحيان، التنازل بلا حدود لا يولّد تقديرًا، بل يُنبت الجحود.