الرئيسية مقالات “في سوق الأنساب… المأزومون جينيًا والحطيئة أولهم!”

“في سوق الأنساب… المأزومون جينيًا والحطيئة أولهم!”

211
0

 

بقلم :احمد علي بكري

يا صاح، إن أردت أن ترى من حمل همّ الجينات في زمن لم تُخلق فيه بعد أنابيب الاختبار، ولا طافت فوقنا سحب الـDNA والـPCR، فما عليك إلا أن تفتح كتاب التاريخ وتبحث عن رجل يُدعى “الحطيئة”، ذاك الشاعر الذي ضاع نسبه كما يضيع الحجر في الصحراء، لا هو عبسيٌّ فيعتزّ، ولا هو هُذليٌّ فيرتجز. كأن الأرض لفظته والسماء تنكرت له، فظلّ يتقلب بين القبائل كما تتقلب الذبابة بين أعقاب الأقداح الفارغة.
قصة الحطيئة: من أنت؟!
قيل إن الحطيئة، وهو غياث بن غوث – ولا تسل من هو غياث ولا من هو غوث! – جاء يومًا إلى أمه يسألها عن أبيه، فقالت له بما يشبه الاعتذار:
“يا بني، ما أدري، لعله عبسيّ… أو هُذليّ… أو لعل الريح حملتني وأنا لا أدري من أين أتيت!”
فما كان من الحطيئة إلا أن لبس رداء الشاعر، وسار إلى قبيلة عبس، يحدوه أمل أن يجد بين فرسانها من يقول له: “أهلاً بك يا ابن العم!”، لكنه لم يجد إلا أعينًا تتفحصه كما يتفحص الجزار خروفًا دخيلاً. فطرده العبسيون شر طردة. ثم انتقل إلى هُذيل، فقالوا له: “لا نعرفك، ولسنا من ضيّع ولدًا مثلك.”
فما كان منه إلا أن أخرج لسانه المسنون، وراح يهجو عبسًا وهُذيلًا هجاءً لا تُبقي معه كرامة، ولا تذر شرفًا قائمًا.
ولم يتوقف هناك، فهجى أمه قائلاً:
“رمتني أمي ولم تدرِ ما ولدت
فويلٌ لها! كيف ولدت؟”
ثم هجى أباه:
“دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي”
بل إنه في النهاية نظر في المرآة، فلم يجد فيها وجهًا يعرفه، فهجى نفسه:
“أبت شفتاي اليومَ إلا تكلُّمًا
بسوءٍ… فما أدري لمن أنا قائله!”
المأزومون الجينيون في زماننا: أبناء الحطيئة روحًا
وفي أيامنا هذه، ترى الحطيئة قد تناسل جينيًا، لا في اللحم والدم، بل في الروح والذوق والهوى. فهنا مأزوم يبحث في المختبرات والمشجّرات والأشجار الوراثية عن جده السابع عشر، وكأنه ضاع منه كنز قارون، وهناك آخر كان له نسب راسخ، لكن وسوست له نفسه أن النسب الجديد “أشيك” وأرفع منزلة، فغير نسبه كما يغير أحدهم اسمه على تطبيق مواعدة.
بل الأعجب من ذلك أن بعضهم – وقد أنكر نسبه الأصلي – أخذ يهجو أهله، ويذم قبيلته الأولى، كأنما هم من باعوه في سوق العبيد. فتراه في كل محفل يقول: “أولئك لا يستحقونني، وأنا اليوم مع القبيلة الفلانية”، وما يدري أن القبيلة الفلانية، إن علمت حقيقته، لن تدعه يسقي نوقها.
خاتمة: نسبٌ على ورق، وكرامة في الطين
إن أزمة الهوية لا تُحل بشهادات جينية، ولا تُشفى بتبديل الاسم والنسب، بل بالصدق مع الذات، واحترام الأصل، حتى وإن لم يكن ملكًا أو زعيمًا. فإنك – إن كنت ابن مروءة وخلق – رفعت نسبك برفعة سلوكك. أما إن صرت كالحطيئة، تلعن كل شجرة مررت بها لأنك لم تجد تحتها ظلك، فلن يزيدك هجاؤك إلا ضياعًا، ولن تجد لك وطنًا في قلب أحد.
وصدق من قال:
“ليس النسب ما حمله الجدود، بل ما تُورثه الأخلاق والسجية.”