بقلم: أحمد علي بكري
عندما يُذكر تاريخ البشرية، كثيرًا ما تتجه الأنظار إلى حضارات النيل والرافدين ووادي السند، بينما تُهمَّش عمداً أو جهلاً حضارات الجزيرة العربية، وكأنها لم تكن سوى صحراء خاوية عبر العصور. ولكن الحقيقة التي تُثبتها المكتشفات الأثرية اليوم تُفند هذا الادعاء الزائف، وتُعيد للجزيرة العربية مكانتها التي تستحقها في سجل الحضارات الإنسانية.في منطقة قرية الفاو، الواقعة عند ملتقى طرق التجارة القديمة جنوب نجد، تم اكتشاف آثار تدل على مدينة مزدهرة قبل الميلاد بقرون، تعج بالحياة والمعمار والكتابة والنقوش. لم تكن الفاو مجرد محطة تجارية، بل كانت مركزًا حضاريًا متكاملًا، يجمع بين الثقافة والزراعة والحرف والتبادل التجاري، ما يؤكد أن سكانها لم يكونوا بدوًا رحّلًا، بل أهل حضارة وأرض واستقرار.وفي جبل اللوز شمال غرب المملكة، برزت آثار نقوش ومخلفات بشرية تدل على استيطان بشري يمتد لآلاف السنين، وتنوع بيئي وجغرافي يسمح بالزراعة والرعي والحياة المستقرة، في منطقة يُعتقد أنها شهدت تفاعلات حضارية عميقة تعود إلى العصور الحجرية.
ومن أروع الشواهد على عراقة سكان الجزيرة العربية، هو الاكتشاف الذي وُصف بالأثري الفريد: أقدم تنور للطهي في منطقة جازان جنوب المملكة، والذي يعود إلى أكثر من 9000 عام. هذا الاكتشاف البسيط في مظهره، العميق في دلالاته، يُخبرنا عن وجود حياة منزلية منتظمة، وعن مجتمع مستقر يمارس الزراعة والطهي والتخزين، وهي من أبرز سمات المجتمعات المتحضرة.
أما الاكتشاف الذي زلزل بعض الروايات الاستشراقية الممجوجة، فهو ما وُجد من حوافر الخيل العربي في مواقع متعددة داخل الجزيرة، وخاصة في الفاو وجوارها. هذه الحوافر المحفوظة في التربة، والتي تعود إلى آلاف السنين، تدحض أكذوبة أن الخيل العربي جاء من خارج الجزيرة، وتؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الجزيرة العربية هي الموطن الأصلي للأصيل العربي. لقد وُلد الخيل هنا، في هذه الأرض، قبل أن يصدر منها إلى بقاع العالم.
كل هذه الشواهد، وغيرها كثير مما لم يُكشف عنه بعد، تمثل صفعة قوية على وجه أولئك الذين يزعمون أن العرب كانوا قومًا بلا حضارة. بل لعل الحقيقة الجلية هي أن العرب أبناء حضارة عريقة، ضاربة في أعماق الزمن، وقد ورث السعوديون اليوم هذه الأرض، ليس فقط بصفتهم حراسًا للمقدسات، بل أيضًا ورثة حضارات متجذرة في التراب، حضارات كتبت قصصها فوق الصخور، وخبأتها الرمال، وآن لها أن تُروى.
إن التشكيك في حضارة العرب لم يكن يومًا منصفًا، بل كان في كثير من الأحيان مدفوعًا بكراهية أو جهل أو خطاب استعماري أراد أن يُصوّر العرب على أنهم طارئون على التاريخ. لكن آثار الفاو، وجبل اللوز، والتنور الجازاني، وحوافر الخيل الأصيل، كلها تقول بصوت واحد: هنا كانت البداية… وهنا بقيت الحضارة حيّة في الذاكرة والأرض.