الرئيسية مقالات “الرأي والحقيقة: حينما تُفرض القناعات أقنعةً على العقول”

“الرأي والحقيقة: حينما تُفرض القناعات أقنعةً على العقول”

107
0

 

بقلم: أحمد علي بكري

في زمنٍ تتداخل فيه الأصوات وتضيع فيه الحدود بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، يبرز إشكال جوهري يهدد الصفاء العقلي والنقاش النزيه: الفرق بين الرأي والحقيقة. فالرأي، بطبيعته، انعكاس لتجربة شخصية أو فهمٍ محدود، بينما الحقيقة ثابتة، قائمة على الدليل، لا تنحاز لميول ولا تخضع للأهواء.

الرأي هو وجهة نظر، قد تصيب أو تخطئ، يتشكل من خلفية الإنسان وثقافته وظروفه النفسية والاجتماعية. أما الحقيقة فهي ما يمكن التحقق منه، ما يثبته البرهان وتدعمه الشواهد. الحقيقة لا تتغير بتغير الأشخاص، بينما الآراء تتبدل مع الزمان والمكان.

لكن ما يدعو للقلق هو حينما يحاول بعض الناس – أفرادًا أو جماعات – تحويل آرائهم إلى حقائق، لا لأنها حقائق فعلًا، بل لأنهم يريدون أن تكون كذلك. فيمارسون ضغوطًا فكرية وإعلامية، يرفعون أصواتهم في المنابر والمنصات، ويهاجمون كل من يخالفهم، لا بالحجة، بل بالتشكيك والتخوين والإقصاء. فيتحول الرأي إلى وصاية، وكأن الحقيقة لم تعد تُكتشف، بل تُصاغ وتُفرض.

والأخطر من ذلك حين يطغى رأي الإنسان لا على المنطق فحسب، بل على ما هو مسلَّم به من ثوابت ديننا الإسلامي الحنيف. فيرى نفسه أهدى سبيلاً من أئمة وعلماء الأمة المعتبرين، ويزعم أن رأيه أو اجتهاده أرجح وأقوم، متجاوزًا بذلك حدود الأدب مع العلم وأهله، وحدود المسؤولية في القول والفكر.

وما يدفع هؤلاء في كثير من الأحيان ليس بحثًا عن الحق، بل هوى يسوقهم، أو رغبة دفينة في التميز والانفراد، أو انحراف فكري مندس في ثياب الاجتهاد. فيخلطون بين حرية التفكير وبين تمرّد على الأصول، ويستبدلون نور الوحي بضباب النفس، مدّعين التحرر وهم أسرى أهوائهم.

هذا النمط من الغرور المعرفي لا يقود إلا إلى الفوضى، ويضعف مكانة المرجعية العلمية والدينية، ويزرع البلبلة في نفوس العامة، الذين قد لا يميزون بين الرأي الشخصي والاجتهاد المنضبط.

كم من قضايا اجتماعية أو فكرية طُرحت في ساحات النقاش، فجعل منها البعض ساحة حرب، لا مجال فيها للاختلاف! وكم من شخص اعتنق فكرةً ما، فأراد أن يُجبر غيره على تقبلها وكأنها حقيقة مطلقة لا تقبل الجدال، ناسيًا أن الآخرين لهم عقول، وأن التعدد في الآراء ليس ضعفًا، بل غنى فكري.

الحقيقة تحتاج إلى تواضع، والرأي يحتاج إلى وعي بحدوده. فمن عرف حدود رأيه، احترم عقول الآخرين، وساهم في بناء بيئة فكرية صحية، يكون فيها النقاش وسيلة للوصول إلى الأنفع، لا معركة لإثبات الذات.

وفي النهاية، لنتذكّر:

الحقيقة لا تخاف الحوار، والرأي لا يعلو إلا بالحجة، والدين ليس ساحة للآراء المنفلتة، بل وحي محفوظ، له أهله ورجاله المعتبرون.

فدع الناس يفكرون، كما أردت أن تُفكِّر أنت، ولا ترفع رأيك فوق ما شرعه الله، فتضل وأنت تظن أنك تهدي، وكن حذرًا من هوى يلبس لك الانحراف لباس الرأي الناضج