بقلم : أحمد علي بكري
هل تصدق أن هذا المشهد ليس من وحي أفلام الخيال العلمي، بل من واقع عاشه الناس قبل أكثر من 800 عام؟
في القرن السادس الهجري، كان ضيوف أحد أمراء ديار بكر في الأناضول يُدهشون من قارب خشبي صغير يطفو بهدوء في بركة صناعية، بينما تعزف عليه فرقة موسيقية كاملة: طبول، ناي، صنجات، وطبلات، جميعها تتحرك بإيقاع دقيق دون أن يمسها بشر!
لكن من يقف وراء هذه الأعجوبة؟ إنه بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري، أحد أعظم عباقرة الهندسة والميكانيكا في تاريخ الحضارة الإسلامية، بل ويُعتبر من أوائل من وضعوا الأسس الحقيقية لصناعة “الروبوتات” كما نعرفها اليوم.
من هو الجزري؟
وُلد الجزري في عام 1136م، وعاش في مدينة ديار بكر (الواقعة في تركيا اليوم)، حيث عمل في خدمة حكام بني أرتق كمهندس ومخترع. وقد نال شهرة واسعة بين الملوك والأمراء بفضل عبقريته في تصميم آلات دقيقة معقدة تجمع بين العلم والفن والجمال. ولم يكن مجرد صانع أدوات نافعة، بل كان “فنّاناً ميكانيكياً”، يضع لمساته الجمالية على كل آلة، حتى تحولت اختراعاته إلى تحف فنية حية.
كتابه العظيم: “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل”
خلّد الجزري إرثه في هذا الكتاب الفريد الذي ألّفه عام 1206م، قبل عام واحد من وفاته. لم يكن مجرد دليل تقني، بل موسوعة مصورة تصف بالتفصيل أكثر من 100 آلة ميكانيكية، مع رسوم دقيقة وتعليمات واضحة. ويُعتبر هذا الكتاب حجر الأساس في تطور الميكانيكا والهندسة الآلية، وكان له تأثير على أوروبا في بدايات عصر النهضة.
اختراعات الجزري داخل قصور الأمراء
1. الروبوت الموسيقي (القارب العازف)
كانت هذه الآلة من أروع ما ابتكره الجزري: قارب يحمل أربع دُمى ميكانيكية تعزف موسيقى حقيقية، باستخدام تروس، نوابض، وصمامات تتحكم بتدفق المياه، كل ذلك بدقة مدهشة تثير الإعجاب حتى اليوم.
2. الساعة الفلكية (ساعة الفيل)
تحفة معمارية ومؤشر زمني، تجمع بين عناصر هندية، فارسية، وعربية، وفيها فيل ضخم عليه برج فيه شخصيات ميكانيكية تتحرك حسب الوقت، تُستخدم المياه لضبط الوقت مع دقة منقطعة النظير.
3. ساعة الشمع
تستخدم انحراق الشمع لتحديد الوقت، وكان بها نظام ذكي لتحريك دمى صغيرة أو إطلاق طائر في نهاية كل ساعة، مما يثير دهشة الناظرين.
4. الساعة المائية الفلكية
ساعة متقدمة فيها أشكال فلكية وحسابات دقيقة لحركة الشمس والقمر، وتُستخدم لمعرفة مواقيت الصلاة والأوقات بدقة مذهلة في ذلك العصر.
5. غرف المياه الأوتوماتيكية (الصنابير)
صمم أنظمة تُستخدم لتوزيع الماء داخل الحمامات أو القصور عبر مضخات وصمامات، وكان بعضها يعمل بمجرد رفع الغطاء أو تحريك رافعة – شبيه بأنظمة الحساسات الحديثة.
6. نافورات ميكانيكية ذات أشكال متغيرة
ابتكر نوافير مائية تتغير حركتها وشكلها بمرور الوقت باستخدام تروس وزوايا، لتبهر نُزلاء القصر بجمال لا يتكرر.
7. الآلات الرافعة والمضخات
ابتكر الجزري مضخات مائية لرفع الماء من الآبار، وكانت تُستخدم لري الحدائق أو تزويد القصور بالمياه، وبعضها كان يُدار بيد واحدة أو حتى بواسطة الحيوانات.
8. الآلات الأمنية والأقفال المعقدة
صنع صناديق أمان بأقفال متعددة يصعب فتحها إلا بواسطة شفرة معينة، بعضها بآليات ميكانيكية دقيقة تشبه ما نراه اليوم في الخزائن الحديدية.
إرث خالد سبق عصره
لم يكن الجزري مجرد مهندس عادي، بل كان سابقًا لعصره بقرون. استخدم مفهوم “التحكم التلقائي” (Automation) قبل أن يظهر في أوروبا بأكثر من 600 سنة. كانت آلاته تُمثّل أولى بوادر اختراع الإنسان الآلي (الروبوت)، بما تحويه من تروس، نوابض، وصمامات، بل وحتى “برمجة بدائية” باستخدام الأعمدة المسننة والتتابع الزمني للحركات.
في الختام
بينما يشهد العالم اليوم ثورة في الذكاء الاصطناعي والروبوتات، يبقى اسم بديع الزمان الجزري رمزًا خالدًا، يشهد على عظمة العقل الإسلامي وقدرته على الإبداع في أحلك العصور. ومن بحيرة صغيرة تعزف فيها دُمى موسيقية، بدأت أولى نغمات الروبوتات… قبل أن تُصبح سمفونية كبرى في عالمنا الحديث.
هل تخيلت الآن كيف كان سيكون شكل المستقبل لو استمر العالم في البناء على إنجازات الجزري منذ ذلك الحين؟