بقلم: أحمد علي بكري
في زمنٍ باتت فيه البصمة الوراثية إحدى بوابات المعرفة التاريخية والأنساب القبلية، تحوّلت ساحة الجينات من حقل علمي نقي، إلى ميدان صراعات وهجمات خفية، وأحيانًا، إلى ساحة حرب باردة جديدة: حرب الجينات.
وما زاد الطين بلة، هو الانفجار المفاجئ في عدد العينات الجينية المقدّمة من أفراد يحملون أسماءً قبليّة عريقة، لكنها -وفق ما أظهرته التحقيقات والمراجعات الجينية الدقيقة– لا تمتُّ بصلةٍ حقيقية إلى الأنساب التي زعموها.
تزوير جيني تحت الضوء
منذ بداية ظهور نتائج المشاريع الجينية العربية، ظهر العديد من الحالات التي تم فيها:
استبدال أسماء المتبرعين بأسماء قبائل أخرى.
رفع عينات أجنبية أو لا تُعرف أصولها على أنها تعود لعوائل مشهورة.
تزوير الأعلام الخاصة بالتحورات وإلحاقها بأسر بعينها لأغراض تضليلية.
وفي أحيان أخرى، تُرفع عيّنات لأشخاص مجهولين أو لأفراد من خارج الجزيرة العربية، وتُلبّس لبوس القبائل العريقة، كل ذلك تحت مظلة علمية زائفة.
هل نحن أمام “جواسيس جينيّين”؟
السؤال الأهم هنا: هل هناك من يتعمّد دسّ “جواسيس” داخل التحورات الجينية؟
بمعنى أوضح: هل يتم تقديم عينات بأسماء وهمية من طرف أفراد أو جهات تهدف إلى تشويه الصورة الجينية لقبيلة معينة، أو نشر الشك حول صحة تراثها ونسبها؟
الإجابة المقلقة هي: نعم، هناك مؤشرات واضحة على حصول ذلك.
أسباب محتملة لدسّ الجواسيس الجينيين:
تشويه الخصوم القَبليين: بعض الصراعات القبلية القديمة وجدت في الجينات ميدانًا جديدًا للثأر.
زرع الفتنة والتشكيك في الأنساب: لزعزعة الثقة بين أبناء النسب الواحد.
دوافع أيديولوجية أو خارجية: تهدف لتفكيك البنية القبلية في الجزيرة العربية لصالح أجندات سياسية أو استعمارية حديثة بثوب علمي.
كيف نكشف الجواسيس الجينيين؟
رغم تعقيد اللعبة الجينية، إلا أن كشف المزيفين ليس مستحيلًا. ويمكن ذلك عبر:
1. مطابقة العينة مع الوثائق الموثقة
كل عينة يجب أن تُرفق بوثيقة هوية وموافقة موثّقة من المتبرع، مع سلسلة نسب واضحة يمكن تتبعها.
2. تحليل نمط انتشار العيّنة
العينات الحقيقية تُظهر نمط انتشار منطقي في نفس مناطق السكن التاريخي للقبيلة، بينما الجواسيس غالبًا يظهرون في مواقع متباعدة وشاذة.
3. التقاطع مع عيّنات فرعية من أبناء العمومة
العينات الصحيحة تُظهر تقاربًا واضحًا مع أبناء العمومة أو نفس الفرع، أما العينات المزروعة فتبقى معزولة في خارطة الجين.
4. استعمال التحليل الزمني للتفرع
الجاسوس الجيني لا يمكنه تزوير الزمن الجيني (TMRCA)، إذ أن تحوّره لن يتطابق في التوقيت مع الجد المشترك المزعوم.
5. متابعة الأنماط المتكررة للعبث
فرق المراقبة الجينية قادرة على رصد الحملات التي تهدف لتزوير تحور معين أو نسب قبيلة، خصوصًا إذا تم رفع عينات متشابهة بأسماء مختلفة وفي فترات زمنية قصيرة.
خاتمة:
ما يحدث اليوم من محاولات دسّ الجواسيس الجينيين ليس مجرد عبثٍ إلكتروني، بل هو اعتداء صريح على تراث أمة، وعلى شرف الأنساب التي أمرنا الشرع بحفظها وصيانتها.
إنها حرب جديدة لا تُخاض بالسيوف، بل بالأرقام والتحورات والتسلسلات… حربٌ ناعمة بثوب العلم، لكنها قد تمزق أواصر النسب وتزرع الفتنة إن تُركت دون رادع.
وعليه، فإن مسؤولية التصدي لهذه الظاهرة تقع أولًا على الباحثين النزهاء، ومشرفي المشاريع الجينية الأمناء، وأبناء القبائل الغيورين على ميراثهم التاريخي، الذين يوقنون أن النسب أمانة، لا مجال فيها للهوى أو الطمع أو التزييف.
فاتقوا الله في أنساب العباد، ولا تجعلوا من أدوات العلم جسورًا للخداع، ولا سلّمًا لأطماع خفية.
واعلموا أن الكذب في النسب، كذبٌ في الدم، وأن تزويره جرمٌ عظيم، لا يُمحى ببريق التقنية ولا يُغتفر في ميزان الشريعة.
فلنعمل جميعًا بصدق، ونجعل غايتنا وجه الله، لا مجدًا مزيفًا ولا تصدرًا موهومًا.
فمن لا يُحسن الدفاع عن نسبه بالحق، سيتوه في ظلمات الباطل… وإن تزيّنت بالأجهزة والتحاليل.
اللهم اجعلنا من الصادقين، ووفقنا للعدل في القول والعمل، واجعل هذا العلم وسيلة للحق لا أداة للفتنة.