الرئيسية مقالات جازان تفرح بالحجاج: أهازيج الوداع، قعادة الفرح، وهدايا الصُّنْبَران صور من الذاكرة...

جازان تفرح بالحجاج: أهازيج الوداع، قعادة الفرح، وهدايا الصُّنْبَران صور من الذاكرة الجازانية

84
0

 

بقلم: أحمد علي بكري

حين يتحول موسم الحج إلى عرس شعبي في جازان

منطقة جازان لم تكن يومًا تنظر إلى الحج كرحلة شخصية فقط، بل كانت تعتبره حدثًا مجتمعيًا عامًا، تذوب فيه مشاعر القرية كلها في قلب حاجٍ واحد. فحين يقرر أحدهم أن يؤدي فريضة الحج، تبدأ معه رحلة من الفرح، والدعاء، والترقب، والتقاليد العميقة المتوارثة عبر الأجيال.

في كل منزل من منازل جازان، من جبال فيفا إلى سواحل فرسان، للحج مذاق مختلف، وبهجة تختلف عن أي مناسبة. تختلط فيه دموع الفراق بزغاريد الوداع، والدعاء بالحياة الطويلة مع تجهيز القعادة، والأهازيج بأصوات النساء المنتظرات رجعة رجالهن من بيت الله الحرام.

النية والبداية: ما إن ينطق الحاج بنيّته… تبدأ القرية بالاستعداد

في السابق، كان الحاج يُعد نفسه للسفر قبل أشهر من ذي الحجة، بل إن بعضهم يبيت نية الحج من شعبان أو حتى قبل رمضان. ولم يكن ذلك أمرًا هيِّنًا، فالسفر كان محفوفًا بالأخطار، سواء عبر الطرق البرية الصعبة أو الرحلات البحرية المليئة بالمفاجآت.

وبمجرد إعلان النية، يبدأ التحضير النفسي والجسدي والاجتماعي. يجتمع الناس في منزل الحاج، يُعينونه بالرأي والنفقة والدعاء، وتبدأ النساء بجمع المستلزمات وتجهيز الحقائب، بينما يُجهّز الرجال الراحلة، سواء كانت بعيرًا أو قاربًا أو حتى السير على الأقدام.

وداع الحاج: من دموع النساء إلى الأهازيج الشجية

قبل أيام من الرحيل، تبدأ أولى ليالي الوداع، حيث يُنظم الناس أمسيات في بيت الحاج، يتبادلون الدعاء والتوصيات، ويرتفع صوت الشعر الشعبي المُغنّى، خصوصًا من كبار السن والنساء. من أجمل ما يُقال في هذه المجالس:

أهزوجة الشاعر عبدالرحيم البرعي:

الناس قد حجّوا وقد بلغوا مرادهم

وأنا اللي لا حجّيت ولا بلغت مرادي

يا واصلين إلى منى بعشية

ردوا السلام عليّ أهل ذاك الوادي

بالله يا زوّار مسجد طيبة

من كان منكم رائحًا أو غادي

إذا وصلتم سالمين فبلغوا مني

السلام على أهل ذاك الوادي

ردّوا السلام على أهل طيبة كلهم

الشب والشيبان والأولاد

 

 

ومن فرسان، أهزوجة أحمد عمر مفتاح:

ودعن بك يا ضلع جنبي اليمين

يا بوعمر يا مكتمل يا رزين

ودعت بك ودمع عيني يجول

هلّت دموعي مثل هلّ المطر

راجعت عقلي يوم عقلي افتكر

وقلت يهنا من جواره الرسول

يوم الخميس الصبح جدّ الفراق

لا تنظر إلا الدمع وإلا الضياق

ندعي لهم بالعافية والقبول

هذه الأهازيج كانت تُغنّى بإيقاع بطئ، يملأ المجلس روحًا وهيبة، ويرسم صورة الحاج القادم على مشارف الكعبة.

وداع النساء: شجنٌ مغنّى… وأغنيات تُحاكي الورد والذهب

حين يحل اليوم الأول من شهر ذي الحجة، يبدأ وداع النساء، وهو وداع ذو طقوس خاصة. تُغنى فيه أهازيج لها ألحان تُشبه الترنيمات، ومن أشهرها:

ودعن بك مصطفاية

حالية كالسكراية

قط ما سوّن حكاية

خاطرك يا أحمد حسن

شانوا دع بالعزيز

ذهب صاخي من باريز

من خيول عبدالعزيز

خاطرك يا أحمد حسن

في هذه الأهزوجة، تشبيهٌ للحاج بالذهب، وذكرٌ للفروسية، في دلالة على شرف الرحلة ومكانة من يؤديها.

قعادة الحاج: العرش الذي لا يجلس عليه إلا صاحبه

من العادات الجميلة التي كانت سائدة في جازان، ما يُعرف بـ”قعادة الحاج”. وهي سرير خشبي يُصنع خصيصًا لاستقبال الحاج عند عودته، ويُمنع الجميع من الجلوس عليه حتى يجلس عليه الحاج بنفسه لأول مرة بعد عودته، وكأنه عرش الفرح والبركة.

يتم بناء القعادة من خشب السدر، وتُغطى بالمخدات والسجاد، وتُخصص كل “ركبة” منه لأحد قريبات الحاج: الأم، الأخت، الزوجة.

ويُحتفل بتحبيل القعادة بأهازيج مثل:

يوم تحبيل القعادة

كانت أيام السعادة

والجميع في سرور

يوم تصليح القعادة

يحضرون اشراف وسادة

تصبح القعادة رمزًا ينتظره الأطفال والكبار على حد سواء، فهي مرآة العودة، وتختزن في زواياها دموع الغياب وفرحة اللقاء.

أهازيج العَجل: استعجال اللقاء وبهجة الانتظار

مع اقتراب انتهاء مناسك الحج، تبدأ النساء في ترديد أهازيج “العَجل”، التي تُعبّر عن اشتياقهم للحجاج، وتُرافقها الاستعدادات الكبرى في المنازل من تنظيف ورش البخور وتجديد الطلاء.

غابوا عليه مثل لمح البصر

في حفظ ربي سالمين الخطر

حج الهنا وتجارة لن تبور

من بعد طمّن لي على خاطري

بعد المغيبة الهموم تنجلي

مدة قصيرة والقهاوي تدور

شروا ضحاياهم ولبسوا الحرام

ومن الخطا يعصمون الكلام

ألا بذكر الله في كل قول

لبسوا الحرام رجالهم والنساء

ومتابعين لسنّة المصطفى

ما تسمع إلا الدمدمة والبكا

ما بين زمزم والحطيم والصفا

والعين بالدمعة الغزيرة تخور

هدايا الحجاج: الفَحيقة والسُّكّرة وخواتم

عند عودة الحجاج، كان الناس صغارا و كبارا يترقبونهم ليس فقط شوقًا، بل لهفة لهداياهم المحمّلة من مكة والمدينة، تلك التي لم تكن غالية الثمن، لكنها مفعمة بالمعنى.

◉ الصُّنبَران والفَحيقة: هدية الذوق والبركة

الصُّنبَران هو حمص مجفف يُحمّص ويُجلب من مكة أو المدينة، وبعد طحنه وخلطه بالسكر الناعم يُسمّى “الفَحيقة”. كان الحاج يوزعه على الأطفال في أكياس صغيرة، وكان يُعد من أحبّ الهدايا إليهم، فهو يحمل طعم الحجاز وسنابل مكة.

◉ السُّكّرة: حلوى مباركة

حلوى تُعرف في الأسواق الحجازية، تُحضَّر من السكر والسمن، ملفوفة بأوراق مزخرفة. يُوزعها الحاج على نساء البيت، وغالبًا ما تُخبأ منها قطعة لتُحفظ للبركة.

◉ السبح والخواتم: رموز الذكر والتذكّر

السبح المصنوعة من العقيق أو الكهرمان، والخواتم المنقوشة بأسماء الله أو بعبارات روحية، كانت تُعدّ من الهدايا الرمزية الغالية، تُهدى للآباء أو الأصدقاء المقربين، وتُعلّق في المجالس أو تحفظ في صناديق الذكرى.

◉ صور الحرمين: قبلة العين والروح

صور للكعبة أو المسجد النبوي، تُطبع على ورق لامع، تُهدى وتُعلّق في صدر البيت. وتُعدّ هذه الصور بمثابة شهادة زيارة للحرم، تُفتخر بها الأسر وتُحفظ في ألبومات خاصة.

◉ ماء زمزم والمساويك: بركة تُروى

يحمل الحاج قوارير زمزم بأشكال مختلفة، ويُوزعها على من أحب، وتُستخدم للتداوي والتبرك. كما يحمل المساويك، تُعطى للشيوخ والأمهات، وتُعتبر من السنن والهدايا المحببة.

الخاتمة: جازان… حيث يتحول الحج إلى ملحمة فرح

هذه الطقوس والعادات، بكل ما فيها من بساطة وعمق، هي ميراث حيّ لجازان. تلك المنطقة التي حفظت للحج مقامه ومكانته الاجتماعية، فحوّلته من عبادة فردية إلى فرحة جماعية تُغنيها الأهازيج وتخلّدها الصور وتُنقش في الذاكرة.

وإن اختفت بعض هذه المظاهر في الزمن الحديث، فإنها لا تزال باقية في القلوب، وتستحق أن تُروى للأجيال… لأن جازان، ببساطة، تعرف كيف تفرح بالحج كما لا يفعل غيرها.

جازان – حيث الأهازيج والقعادة ، والصُّنبَران يُفرِح القلوب.