الرئيسية ثقافة وفنون “قال ما اعرفوش!”… حين غنّت وردة وجع الذين أُحبّوا فُنكروا

“قال ما اعرفوش!”… حين غنّت وردة وجع الذين أُحبّوا فُنكروا

140
0

 

بقلم: أحمد علي بكري

المقدمة:

في مطلع السبعينيات، اجتمعت ثلاث عبقريات لتولّد أغنية خالدة لا تشيخ:

صوت وردة الجزائرية، ذلك الصوت المجبول بالأنوثة والأنين،

وكلمات الشاعر الكبير عبد الوهاب محمد، المعروف بقدرته العجيبة على تحويل الوجدان إلى شعر،

وألحان الموسيقار بليغ حمدي، الذي لم يكن فقط ملحنًا، بل عاشقًا يكتب بأنغامه رسائل لا تموت.

في أغنية “يا أهل الهوى”، لم تكن وردة تغني… بل تُحاكم، تُعاتب، وتبكي من خلال نغمة وكلمة وحسرة.

كلمات كتبها عبد الوهاب محمد وكأنّه يكتب اعترافات قلوب خذلها من أحبّت، ولحنها بليغ حمدي كما لو كان يعزف على وترٍ مقطوع داخل قلبه.

من هنا، تبدأ الحكاية…

حكاية حبٍّ لم يُنكرها الزمان، بل أنكرها من عاشها.

حكاية كل من قال فيهم الحبيب: “ما اعرفوش.”

تقول وردة الجزائرية في شهقتها الخالدة:

“يا أهل الهوى قبل ما تظلموني… اسمعوني.”

وتبدأ حكاية وجعٍ ليس له زمن… وجوابٍ لا يُروى بصوت، بل تنهشه الأسئلة في صدور المحبين.

وكأنها تُناجي قلوبًا لا تسمع إلا ما يُرضي كبرياءها، تُصرّ أن تُبرّئ نفسها لا من الخيانة، بل من الألم… من التُهم التي لا تُوجه للمُخطئ، بل للذي أخلص.

كانت تلك الأغنية قصيدة شجن، ومرافعة في محكمة الذكرى، حيث لا شهود إلا القمر، ولا مدافعين إلا أنين الذاكرة.

“عشقنا ياما عشقنا

وشربنا سنين م الهوى شربنا سوا

ودبنا ياما دبنا، واتعذبت قلوبنا…”

أي سُكْرٍ هذا الذي يُسكر الأرواح بلا خمور؟! وأي نارٍ تلك التي تذيب قلوبًا ظنّت أنها وُجدت لتُحب فقط؟

لكن ما أثقل الخذلان حين يأتي من الذي “شرب معك”، و”ذاب معك”، ثم نكرَك كما يُنكر الغريب وجها مرّ به صدفة في زحام الطريق.

وفي خِضمّ الجراح، تأتي اللحظة القاتلة، لحظة اللقاء الغريب، ليس به شوق ولا سلام، بل نسيانٌ بارد:

“وف ليلة قابلوه، كلموه، سألوه

عن اسمي سألوه، عن حبي سألوه

قال ما اعرفوش، ما قابلتوش، ولا شفتوش، ما عاشرتوش”

آه يا وردة… كم مرة كررنا هذه الحكاية نحن؟

حين نُصبح في ذاكرة من أحببنا كأننا لم نكن، لا خفقة قلب، ولا حرف، ولا ليلٍ سهرناه سويًا…

“قال يعني مش فاكرنا؟!”

وكأن الذكرى جرم، وكأن الوفاء صار عيبًا!

“هو في حد النهاردة بيفتكر؟”

سؤالٌ بريء، لكنه مرير، يُشبه الأطفال حين يسألون عن آباءٍ غابوا دون وداع.

الذاكرة لم تعد ذاكرة، بل دفترٌ يُمزق ما لا يرضينا…

هل الحب شيء يُرمى من النوافذ إذا ضاقت النفوس؟

ثم تعود وردة للشكوى، لا منه فقط، بل من الزمان كله:

“غريبة ومش غريبة، دنيا وفيها العجايب

بتريح اللي ظلموا، وبتتعب الحبايب”

ويا لها من دنيا…

منذ متى كان الظالم ينام قرير العين، والمحب يسهر على أوجاعه؟

منذ متى كان “اللي خان” هو الذي يُغنّى له، و”اللي وفي” هو الذي يُنسى ويُقال فيه: “أنا ما اعرفش هما مين”؟

تُعلّق وردة كلماتها في رقبة القمر، تُحمله رسالةً إلى من نسى، إلى من غدر، إلى من تبرّأ من الحب كما يتبرأ السجين من تهمته:

“روح قول له يا قمر، فاكرنا ولا ناسي؟

ناسينا ولا فاكر ليالي السهر؟”

كم مرة وقفنا أمام السماء نُحادث القمر… نرجوه أن يتذكر من لا يتذكّرنا؟

لكن القمر أيضًا تغيّر، لم يعُد رفيق العشاق، بل صار قاسيًا كقلوبهم…

“ولا انت يا قمر، اتعلمت القساوة، وبقيت زي حبيبي؟”

وفي النهاية، تهتف الذاكرة بكل ما فيها من دموعٍ وحسرة:

“وآه لو الأيام بتتكلم كانت قالت عملنا إيه

وكان الحب قد إيه، وراح إزاي، وكنا إزاي

ودلوقتي بقينا إيه، وشوفوا بيقول علينا إيه…”

ما أعجز الكلمات حين يُصبح الحب مجرّد سطرٍ ممحو من كتاب أحدهم…

وما أوجع أن تكتبك الحياة في فصلها الأجمل، ويقرأك هو في هامش النسيان.

يا وردة…

غنّيتِ لا لتواسينا، بل لتكشفي لنا أن كل قلب صادق قد يُذبح على عتبات الخيانة، ويُقال له بعدها: “ما شفناهوش!”

لكننا نعرف… أن القلوب التي أحبت يومًا بصدق، لا تموت…

بل تُغني، حتى وإن بكت.