بقلم: أحمد علي بكري
جازان… الأرض التي لا تموت
جازان ليست مجرد رقعة جغرافية، بل هي هوية متجذرة منذ آلاف السنين. ملتقى طرق الحضارات، ومعبر القوافل التجارية، وموطن الإنسان منذ عصور ما قبل التاريخ، امتدت حدودها جغرافيًا لتشمل تهامة مكة، تهامة عسير، تهامة جازان، تهامة اليمن، ووصلت في بعض الفترات إلى جبال عسير الداخلية.
هذه الأرض حافظت على خصوصيتها السياسية والثقافية، فهي التي صدّت أطماع الممالك الكبرى، وحافظت على حكمها الذاتي، ثم اختارت في لحظة تاريخية أن تكون جزءًا من الدولة السعودية طواعيةً لا قسرًا.
جازان في عصور ما قبل التاريخ
تُعد جازان واحدة من أقدم مناطق الجزيرة العربية التي سكنت منذ آلاف السنين. في جزر فرسان، اكتشفت أكوام أصداف وأدوات حجرية تعود لأكثر من 8 آلاف سنة، تدل على النشاط البشري والصيد البحري. وفي سهول وجبال الداخل، ظهرت أدوات حجرية ورسوم صخرية ومواقع دفن، تعكس حياة السكان القديمة. كما تحمل جبال فيفاء والريث رسوم حيوانات على الصخور، تدل على وجود المجتمعات الرعوية والزراعية، وهو ما يشير إلى نمط حياة مستقرّ نسبيًا يعتمد على الرعي والزراعة والصيد، وربط المنطقة بممرات تجارية برية وبحرية.
الممالك القديمة والحكم المحلي
امتدت سلطات جازان تاريخيًا لتشمل تهامة مكة، تهامة عسير، تهامة جازان، تهامة اليمن، ووصلت في بعض الفترات إلى جبال عسير الداخلية. وقد حكمت المنطقة قبائل عُك، بني الحكم، والأسر الأشرافية التي حافظت على استقلال المنطقة وأمنها.
من الأسر العريقة، تبرز آل حمق البكري من بني عقيل، المنتسبة إلى الشريف أحمد بن عثمان بن أبي بكر العقيلي، المعروف بـ صاحب المسواك وصاحب مسجد السادة في بندر جازان، والمتوفى سنة 952هـ، والمنتسب إلى الشريف أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي، ويُنسب أيضًا رأس عيسى إلى عيسى بن أحمد بن عمر العقيلي الهاشمي.
وعلى لساني أقول: “لعلي أفتخر لكوني من أبناء هذه المنطقة، ومن أسرة آل حمق البكري التي ربطت تاريخها بحياة الناس وثقافتهم وعراقتها في كل عصر.”
الاكتشافات الأثرية والنقوش التاريخية
تزخر جازان بتاريخ أثري غني يظهر من خلال العديد من الاكتشافات المهمة التي تشهد على عمق حضارتها وقدمها. فـنقش ملك جازان يعد دليلًا على وجود سلطة ملكية محلية مستقلة في الماضي، ويعكس امتداد نفوذ الملوك المحليين وتأثيرهم على تهامة والمناطق الداخلية، ما يؤكد مكانة جازان السياسية والاستراتيجية عبر العصور.
كما اكتُشف في المنطقة أقدم تنور فخاري، وهو شاهد على تطور الحياة المعيشية والصناعات الفخارية، ويعكس معرفة السكان بطرق الطهي والتخزين والزراعة، مما يوضح مدى تقدم المجتمع المحلي وقدرته على تنظيم حياته اليومية بشكل متقن.
ومن الاكتشافات اللافتة أيضًا أقدم فك جمل، الذي يشير إلى استئناس الجمال وربما استخدامها في التجارة والقوافل، ما يثبت دور جازان كمحطة محورية على طرق التجارة القديمة، وربطها بين تهامة واليمن وعسير ومكة المكرمة، مؤكدًا أهميتها الاقتصادية والتجارية.
كما كشفت الحفريات عن أدوات حجرية ومواقع دفن إنساني، تكشف عن عادات المجتمعات القديمة وطرق معيشة السكان منذ آلاف السنين، وتعكس التكيف مع البيئة المحيطة وممارسات الحياة اليومية.
إضافة إلى ذلك، تحتفظ جبال جازان وقرىها القديمة بـمواقع عمرانية أثرية، تشمل الأطلال الحجرية والحصون والقرى المهجورة، حيث تشير الدراسات إلى وجود أكثر من ألف حصن في جبال المنطقة، ما يجعلها أكبر تجمع للحصون الجبلية في العالم، معبرة عن أهمية المنطقة تاريخيًا واستراتيجيًا في الدفاع وحماية السكان ومسالك القوافل التجارية.
التواجد الأجنبي وطرد الغزاة
شهدت جازان تواجدًا أجنبيًا على سواحلها؛ فقد حاول البرتغاليون فرض نفوذهم للاستفادة من التجارة البحرية، لكن القبائل المحلية صدّت أطماعهم وطردوهم نهائيًا. تلاهم العثمانيون الذين حاولوا فرض سيطرتهم، إلا أن المقاومة المحلية والحصون الجبلية حالت دون السيطرة الكاملة. وكانت معركة الحفائر الحدث الفاصل، حيث انطلقت الثورة العربية ضد الأتراك الذين ظلموا ونكلوا بالعرب، لتصبح هذه المعركة الشرارة الحقيقية لتحرير الجنوب العربي.
جازان العليا… قرى أثرية وحصون شامخة
تحتفظ جبال جازان، أي جازان العليا، بكنوز أثرية ومعمارية، مثل قرية القصبة الأثرية وأمثالها، حيث الأطلال الحجرية شاهدة على العمران القديم. وفي جبال فيفاء والريث والعارضة، تتوزع أكثر من ألف حصن وبرج دفاعي، لتصبح أكبر تجمع للحصون الجبلية في العالم، معبرة عن أهمية الدفاع وحماية القرى والمزارع ومسالك القوافل.
القبائل العريقة في جبال جازان
سكنت الجبال قبائل متعددة، أبرزها قبائل فيفاء مثل آل شراحيل وآل عبدل وآل مغامر وآل ظلمي، وبني مالك مثل بني سالم وبني عيسى وآل تليد، وقبائل بلغازي مثل آل جابر وآل علي وآل سالم، بالإضافة إلى بني حريص وقيس والريث مثل العبادل والعزيين والخساف، فضلاً عن بني شبيل وبني الحكم، والقبائل العُك القديمة التي حكمت أجزاء من تهامة عسير وجازان وأسست نظامًا اجتماعيًا وسياسيًا متماسكًا.
جازان والدولة السعودية
حافظت جازان على استقلالها ولم تدخل تحت أي سلطة إلا إذا وجدت فيها دعوة للحق والعدل وحماية أهاليها. فقد دخلت طواعية في بيعة الدولة السعودية الأولى (1744–1818م)، لأنها وجدت فيها مرجعية عادلة تقوم على تطبيق شرع الله وصون حقوق الناس وحرياتهم، وليس مجرد سلطة مفروضة بالقوة. وفي الدولة السعودية الثالثة / المملكة الحديثة (1353هـ/1934م)، التحقت جازان طواعية بالمملكة مع الملك عبد العزيز، محافظة على هويتها المحلية، ومضيفة تاريخها العريق إلى كيان الدولة، لأنها رأت في قيادته استمرارًا لمفهوم العدل والدعوة إلى الحق، إضافة إلى الوحدة الوطنية وحماية المواطنين من الأطماع الخارجية. وكان ولاء الجازانيين اختيارًا واعيًا مستندًا إلى قيم الحق والعدل والحفاظ على هوية الأرض وسكانها.
الخاتمة
تاريخ جازان هو سلسلة متصلة من الأصالة والاستقلال والانتماء الوطني، فقد عاش الإنسان على أراضيها منذ عصور ما قبل التاريخ، وأنشأ المجتمعات الرعوية والزراعية، وانتقل تاريخها إلى مرحلة الممالك المحلية والنقوش الملكية التي تشهد على وجود حكام مستقلين. كما تركت الحصون والكتل الدفاعية الموزعة في جبالها علامة على قوتها وقدرتها على الدفاع عن نفسها، وبرزت عبر تاريخها معارك المقاومة ضد الغزاة، بدءًا من طرد البرتغاليين، مرورًا بالمقاومة العثمانية وانطلاق الثورة العربية بمعركة الحفائر، وصولًا إلى الدخول الطوعي في الدولة السعودية الحديثة، حيث حافظت على هويتها المحلية وانتمائها الوطني.
إن جازان أرض جمعت بين استقلال الهوية والانتماء للوطن، فبقيت على مر العصور درعًا شامخًا للجزيرة العربية وركنًا ثابتًا في المملكة العربية السعودية. ومهما حاولت أن أكتب عن جازان، فلن تكفيها مجلدات كاملة، ناهيك عن أن يكون هذا المقال المتواضع من ابن بار للمنطقة إلا محاولة بسيطة لعله يفتح أعين الجاهلين ويذر الرماد في أعين الخاقدين والمقللين من قيمة تاريخ وعراقة هذه الأرض الطيبة.






