الجزائر _ كمال فليج
قسنطينة، تلك المدينة التي تشمخ فوق صخور شامخة يقطعها وادي الرمال العميق، ليست مجرد تجمع عمراني بل لوحة طبيعية وهندسية نادرة. تقع شرق الجزائر، وتعتبر سابع أكبر مدن البلاد من حيث عدد السكان، وهي عاصمة الشرق الجزائري وواحدة من أعرق المدن في شمال إفريقيا.
تعود جذور المدينة إلى ما قبل الميلاد، حيث كانت تعرف بـ سيرتا عاصمة نوميديا الشرقية. مرّت عليها حضارات عدة؛ من الرومان الذين أعادوا تشييدها في عهد الإمبراطور قسطنطين الأكبر، إلى الفتح الإسلامي الذي منحها بعدًا حضاريًا وثقافيًا جديدًا، وصولًا إلى الحقبة العثمانية التي تركت بصماتها العمرانية الواضحة، ثم الاستعمار الفرنسي الذي حاول طمس هويتها، لكنه فشل في محو أصالتها.
تشتهر قسنطينة بجسورها المعلقة التي أصبحت رمزًا لها عالميًا، فهي تربط بين أحياء المدينة التي تفصلها هوة وادي الرمال. من أبرزها:
جسر سيدي راشد: تحفة هندسية شُيّدت سنة 1912، وكان الأكبر في العالم آنذاك.
جسر سيدي مسيد: يرتفع أكثر من 175 مترًا فوق الوادي، ويمنح زائره مشهدًا بانوراميًا ساحرًا.
جسر باب القنطرة: الأقدم تاريخيًا، أعيد بناؤه أكثر من مرة منذ العهد الروماني.
كما تزخر المدينة بمعالم تاريخية أخرى، مثل:
قصر أحمد باي: جوهرة الفن العثماني بزخارفه وأسقفه الموشّاة.
المدينة العتيقة: بأزقتها الضيقة وأسواقها الشعبية، حيث يظل عبق التاريخ حيًا.
جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية: التي تجمع بين الأصالة المعمارية والدور العلمي.
قسنطينة ليست حجارة وجسورًا فحسب، بل هي روح متجذرة في الموسيقى والفن والمطبخ. فهي مهد المالوف، أحد أعرق الفنون الأندلسية التي تعبّر عن رقي الذوق القسنطيني وعمق انتمائه الثقافي. كما تشتهر بمأكولاتها التقليدية مثل الشخشوخة والدوبارة والبراج، التي تعكس سخاء المطبخ القسنطيني وتنوعه.
على مر العصور، أنجبت قسنطينة علماء ومفكرين بارزين مثل عبد الحميد بن باديس رائد النهضة الإصلاحية في الجزائر، الذي جعل من المدينة منارة للعلم والإصلاح الديني والفكري. ولا تزال روحه حاضرة في المدارس والجمعيات التي تحمل فكره.
اليوم، تواصل قسنطينة الجمع بين أصالتها التاريخية وتطلعاتها الحديثة، حيث شهدت طفرة عمرانية وثقافية بعد احتضانها تظاهرات وطنية ودولية، أبرزها كونها عاصمة الثقافة العربية لسنة 2015، وهو الحدث الذي أتاح لها فرصة إبراز تراثها الغني على المستوى العالمي.
وهكذا تظل قسنطينة، عروس الشرق، شامخة فوق صخورها العتيقة، تُعانق السماء بجسورها المعلّقة، وتُخفي بين أزقتها همس التاريخ وعبق الحضارات. مدينةٌ تشبه القصيدة؛ كل ركن فيها بيت شعر، وكل جسر قافية، وكل نسمة تمر عبر وادي الرمال لحنٌ من المالوف العتيق. قسنطينة ليست مجرد مدينة تُزار، بل هي حكاية تُروى، وذاكرة لا تشيخ، وسحر يأسر القلب كلما أشرقت عليها شمس الجزائر.







