الرئيسية مقالات موج وذكريات: البحر الذي يشبه حياة جازان

موج وذكريات: البحر الذي يشبه حياة جازان

21
0

 

بقلم: أحمد علي بكري

لطالما كان البحر أكثر من مجرد مساحة مائية تحاذي المدن أو تفصل اليابسة عن المجهول. كان، ولا يزال، أحد أكثر العناصر التصاقًا بالإنسان نفسيًا ووجوديًا، لأنه يمس جوهر التجربة البشرية ذاتها: الخوف، والرزق، والانتظار، والفقد، والأمل. الإنسان لا يقف أمام البحر بوصفه متفرجًا محايدًا، بل بوصفه كائنًا يرى في هذا الامتداد الأزرق صورةً مكبرة من داخله؛ اتساعًا لا يُحد، وعمقًا لا يُقاس، وغموضًا لا يُروّض.

في جازان، تتخذ هذه العلاقة بعدًا أعمق وأصدق. فالبحر هنا ليس زائرًا عابرًا في حياة الناس، بل شريك قديم في تشكيلهم. هو الرئة التي يتنفسون بها حين تختنق الحياة، وهو المتنفس الذي يلجؤون إليه حين تضيق الجدران، وهو الرفيق الصامت الذي يعرف عنهم ما لا يعرفه أقرب الناس. منذ أجيال، تشكّلت المدينة وهي تنظر إلى البحر لا كترفٍ جمالي، بل كحقيقة يومية لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها.

كان البحر في جازان مصدر الرزق الأول، وربما الأصعب. رزق لا يأتي مضمونًا، ولا يخضع لجدول، ولا يستجيب للرغبات المستعجلة. الصياد يخرج وهو يعلم أن البحر قد يعطي وقد يمنع، وأن العودة محمّلًا ليست حقًا مكتسبًا بل احتمالًا مرهونًا بالصبر والاحترام والخبرة. من هنا، لم يكن الرزق البحري مجرد مال أو صيد، بل مدرسة كاملة في فهم الحياة؛ مدرسة علّمت الناس أن التعب جزء من المعادلة، وأن القليل قد يكون نجاة، وأن الوفرة ليست وعدًا دائمًا.

ومع هذا الرزق، تشكّلت إنسانيات خاصة. بيوت تعلّمت كيف تعيش على الانتظار، ونساء تعلّمن كيف يخفين خوفهن خلف الدعاء، وأطفال كبروا وهم يدركون أن عودة الأب ليست أمرًا بديهيًا. البحر لم يصنع قسوة، بل صنع واقعية عميقة؛ واقعية جعلت الإنسان أكثر صبرًا، وأقل ادعاءً، وأكثر تصالحًا مع فكرة أن الحياة لا تسير دائمًا كما نخطط لها.

ولأن البحر كان حاضرًا في كل تفاصيل العيش، دخل بقوة إلى الذاكرة الشعبية. لم يكن يُذكر بلا احترام، ولم يكن يُتداول بلا حذر. الأمثال المرتبطة بالبحر لم تكن للتسلية، بل للتحذير والتعليم. كانوا يقولون ما معناه إن البحر لا يُمتحن، ولا يُمزح معه، وإن الموج يعرف من يستخف به. هذه العبارات لم تولد من الخيال، بل من تجارب قاسية تكررت حتى صارت حكمة جمعية.

في الأغاني البحرية، كان الصوت وسيلة لمقاومة الخوف لا للاحتفال. كان الغناء يُنظّم الجهد، ويخفف الرهبة، ويخلق شعورًا بأن الإنسان ليس وحيدًا في مواجهة هذا الاتساع المخيف. هكذا تحوّل البحر إلى لغة مشتركة، وإلى مرجع ثقافي وأخلاقي، لا مجرد مكان.

لكن البحر، كما أعطى، أخذ. ولا يمكن الحديث عنه بصدق دون التوقف عند الفقد. الفقد البحري مختلف؛ لأنه غالبًا بلا جثمان، وبلا وداع مكتمل، وبلا يقين. هو غياب مفتوح، وحزن بلا نهاية واضحة. كم من رجل خرج ولم يعد، وكم من شاطئ عرف الانتظار أكثر مما عرف اللقاء. هذا النوع من الفقد علّم الناس حزنًا صامتًا، لا صراخ فيه ولا استعراض، بل قبولًا مرًّا بحقيقة أن بعض الغياب لا تفسير له.

ورغم ذلك، لم يتحول البحر إلى عدو في الوعي الجمعي. لم يُلعن، ولم يُهجر. ظل حاضرًا، لأن أهل البحر يعرفون أن العلاقة معه ليست علاقة عدالة بشرية، بل علاقة وجود. البحر لا يعاقب، ولا يجامل، لكنه يذكّر الإنسان بحجمه الحقيقي. ومن هذا الإدراك، تولد حكمة عميقة: أن الهشاشة ليست ضعفًا، بل حقيقة يجب التعايش معها.

ومع تغيّر الزمن، وتوسع المدينة، وتعدد مصادر الرزق، لم يتراجع دور البحر، بل تغيّر شكله. لم يعد مصدر العيش الوحيد، لكنه ظل المرجع النفسي والوجداني. ظل المكان الذي يعود إليه الإنسان حين تختلط عليه المعاني، وحين يشعر أن كل شيء صار أسرع من قدرته على الفهم.

في الشتاء، تتجلى هذه العلاقة بأوضح صورها. يهدأ البحر، ويقترب من المزاج الإنساني، وتصبح ضفافه مجالس مفتوحة للتأمل والحديث والسكينة. في هذا الفصل، لا يعود البحر تحديًا، بل احتواءً. ولهذا، لم يكن غريبًا أن تتحول الواجهات البحرية في جازان إلى قلب نابض للمهرجانات الشتوية، حيث يلتقي الاحتفال بالذاكرة، والفرح بالهوية، والسياحة بالصدق.

هذه المهرجانات ليست قطيعة مع الماضي، بل امتداد له بصيغة جديدة. فهي تعيد تقديم البحر لا كخلفية للصور فقط، بل كجزء حي من التجربة. ولهذا تستقطب جازان زوارها من داخل المملكة وخارجها؛ لأنهم لا يأتون لرؤية البحر فحسب، بل للشعور بعلاقة الناس به، ولمس تلك الإنسانية المتشكلة عبر قرون من العيش على حافته.

فلسفيًا، تظل علاقة الإنسان بالماء علاقة أصل وذاكرة. الإنسان كائن يسعى للسيطرة، والبحر يذكّره باستحالة ذلك. يقف أمامه فيدرك أن بعض الأشياء لا تُمتلك، بل تُحترم. ولهذا، يلجأ الإنسان إلى البحر في لحظات التحول الكبرى: عند الحزن، وعند الفقد، وعند القرارات المصيرية، لأنه المكان الوحيد الذي لا يفرض إجابة، بل يعيد ترتيب السؤال.

هكذا هو البحر في جازان: ليس منظرًا، بل سيرة طويلة؛ سيرة كُتبت بالتعب والرزق، وبالغياب والعودة، وبالصمت والكلمة. وسيظل كذلك ما دامت هناك مدينة تعرف أن قوتها الحقيقية ليست فقط في عمرانها، بل في علاقتها العميقة بالماء، وفي إنسانيتها التي تشبه بحرها: واسعة، صبورة، ولا تُختصر.