*طاهرة فداء*
اتجهت صباح يوم السبت وهو يوم الإجازة من عملي إلى مقهى جميل و هادىء في العاصمة مسقط الذي تم أفتتاحه مؤخراً وفور وصولي إلى المقهى أسرني شكله الخارجي الذي اضفى عليه طابعاً رومانسياً، تستقبلك عند مدخله الرئيسي عربة خشبية محملة بأزهار مختلف ألوانها. تتوسط المقهى أرجوحة أرجوانية تذكرنا بالقصص الغرامية التي طالما قراناها أيام الصبا مثل روايات عبير وغيرها من القصص العاطفية. فتيات صغيرات يضج المكان بضحكاتهن الناعمة، وهن منهمكات في تسجيل اللحظة بهواتفهن المحمولة، وتصوير المكان الذي لم يكن ليتسع فضاؤه لأحلامهن الغرامية. لا أعلم سبب عدم شعوري بالراحة وأنا جالسة إلى أحدى الطاولات المحشورة بزاوية بعيدة، ربما لأنها بعيدة او ربما شعرت أنني لا أنتمي لهذا العالم الرومانسي الجميل، أنه تيار العمر تآكلت عبر منحدره شحنات الحلم العاطفي والجمال الفتي التي كانت مختزنة بذاتي. جلست تاركة حقيبتي على الكرسي الخالي بجانبي كونها طاولة لأربعة أشخاص وأنا انتظر ضيفة واحدة فقط. نظرت إلى الساعة كانت الحادية عشرة صباحاً أنه موعد وصولها، وها أنا ذا آراها تدخل المقهى، تبدو في نهاية العقد الخامس من عمرها. ملامحها جميلة هادئه وكانت تلبس عباءة ملونة جميلة راقية وواسعة نوعا ما لكنها مناسبة لعمرها. تترسم على محياها أبتسامة نحتها الزمن بمزيج من الألم والعطاء، كانت تضع حمرة خفيفة على شفتيها زادتها تألقا وجمالا لكنها لم تخف آثار الزمن التي كانت واضحة حول فمها.
رحبت بها لكن تحيتنا كانت خالية من المصافحة اليدوية والعناق بسبب الأجراءات التي فُرضت علينا لحماية أنفسنا من الجائحة، لكن بداخلي كانت رغبة قوية لتقبيل جبينها أحتراما وأجلالاً لما قدمته من عطاء لهذا البلد الجميل. جلست قبالتي تاركة حقيبتها بجوار حقيبتي على الكرسي الخالي بجانبي ثم انغمسنا في حديث دافيء.
كانت تريد أن تحدثني عن زوجها أي عن حياتها الخاصة ثم صمتت برهة وأنا انظر إلى أصابعها الصلبة تزحف بقلق على الطاولة لترتشف القهوة التركية وكأنها تحاول أن تجمع قواها وذكرياتها المؤلمة لأنقل حكايتها للقراء، تنظر إلي وكانها تقول أنتي تقدري تفهميني.. صح؟
تذكرت مقولة شمس التبريزي “الصمت أيضا له صوت لكنه بحاجة إلى روح تفهمه” وسألت نفسي لماذا اختارتني لتحكي لي حكايتها فالكتابة عندي هواية وليس احتراف. كان بإمكانها أن تتحدث إلى كاتبة موهوبة أو مؤلف مشهور خصوصا أنها شخصية معروفة وكان لها منصب مرموق وكانت تتخذ القرارات الضرورية التي تخدم الشعب قبل أشهر من الآن، اي قبل صدور قرار التقاعد الذي شملها.
قالت : “تعرفي بعض النساء في عمان يمروا في ظروف حياتية صعبة بس ما يتكلموا”
أجبت نعم أعرف هذا الشيْ جيداً، ثم سردت حكايتها، لقد عانت كثيرا بسبب زوجها الذي كان من أقربائها بديار المهجر قبل حوالي أربعين عاما وأنجبت منه طفلة جميلة وذكية وهي حالياً تدير شركة خاصة ناجحة. طبعا كان زواجا من ترتيب العائلة كأغلب الزيجات أنذاك. أضافت أنه بعد مرور عشر سنوات من زواجها اكتشفت خيانة زوجها مع أحد قريباتها التي اتصلت بها لتخبرها عن علاقتهم المحرمة فما كان منها إلا أن طلبت الطلاق لتريح نفسها من التعب النفسي. كنت أسمعها وأنا مندمجة لكنني قلت في ذاتي ما هو الجديد في هذه القصة فهي مكررة وتحدث مع كثير من النساء وخصوصاً خيانة الرجال مع النساء الأجنبيات والجميلات العربيات اللاتي أصبحن الكابوس الأسود الذي يهدد كل زوجة تقريباً.
قلت لها ” الحمد لله أنه طلاقك ما أثر على نجاحك المهني أنت كنت ناجحة و مازلت. نجحت في تأسيس دار أزياء مشهورة قبل ثلاثين سنة ونحن النساء عرفنا الأزياء الفرنسية الراقية من خلالك. أنت كنت السابقة في نشر ثقافة وفن تصميم الأزياء و بعدها توليت منصبًا مهما الذي أخلصت فيه ايضاً”
ردت : “أنا كنت مصرة على النجاح و ما تركت شيْا يآثر علي وعلى ابنتي، كانت لي خطة وأهداف التزمت بها والحمد لله أنا راضية عما قدمته لي ولبلدي ولابنتي وهي فخورة بي الآن وسعيدة بانفصالنا لأنه لو عشنا سوا كانت مشاكلنا سوف تآثر عليها سلباً ”
بعدما أنهينا حديثنا ودعنا بعضنا و تواعدنا على لقاء آخر بفرح أكبر
ركبت سيارتي وأتجهت للمنزل و فور وصولي نظرت إلى الأزهار التي أشتريتها مؤخرا والتي كانت من فصيلة العصاريات، كم هي جميلة بالرغم من نموها في ظروف صعبة، و لفتت انتباهي زهرة ليثوبس التي تشعرك أنها صخرة حية أنبتت زهره ملفتة للنظر زاهية بألوانها و بتلاتها المتفرعة وهكذا وجدت ضيفتي بالرغم من الظروف الصعبة التي مرت بها لم تتنازل عن تحقيق أحلامها و لم تضع نفسها في دائرة سوداء اسمها “زوجي فقط”، تلك الفكرة التقليدية السائدة أن نجاح المرأة وسعادتها مرتبطه بمدى حب وأخلاص زوجها لها، و سألت ذاتي لماذا تحبس المرأه نفسها في هذه الدائرة و ترفض الخروج منها هل لتنال أحترام الآخريات؟ شمس التبريزي يقول ” لا تَقبل بحياة لا تَشعُر فيها بِالحياة”