بقلم / خضران الزهراني
في تلك الليلة الهادئة، التي كانت السماء فيها تغطيها سحبٌ ثقيلة، جلست “مريم” بمفردها بجوار نافذتها، تتأمل القمر الذي كان يضيء الليل البارد وكأنما يشاطرها الحنين. كانت دموعها تتساقط بهدوء، كما لو أن الزمن نفسه كان يذرفها معها، يحمل في طياته جميع الذكريات التي حاولت أن تنساها، ولكنها كانت تطرق أبواب قلبها دون استئذان. كانت تلك اللحظات القديمة، التي كانت مليئة بالضحك والحب والأمل، تلوح أمامها في الأفق، وكأنها لا تزال حية، وكأنها جزء من عالم موازٍ يرفض أن يمر.
لقد كانت مريم تحاول جاهدة أن تخرج من دائرة الماضي التي كانت تقيدها، ولكنها كانت دائمًا تجد نفسها تعود إليه، لا سيما في لحظات السكون، حين يتوقف الزمن عن الحركة، وتغمرها الذكريات كما يغمر البحر الشاطئ. كانت تلك الذكريات، التي شاخت في ذاكرة الأيام، تتسلل إلى قلبها، تحمل معها لحظات الفرح التي كانت تعيشها، وحبًا لم يعد موجودًا، وصداقات كانت تظن أنها خالدة إلى الأبد.
كم مرة تمنت لو أن الزمن يعود بها إلى تلك اللحظات؟ إلى الأيام التي كانت مليئة بالأمل والفرح، إلى الأوقات التي كانت فيها مطمئنة، تشعر بأن المستقبل يحمل لها كل ما تريده. لكن، وبينما كانت تسترجع هذه الذكريات، كانت هناك أسئلة تردد في ذهنها: “هل يمكن أن يعود الماضي؟ هل يمكن أن نعيش نفس الأيام التي ملأت قلوبنا بالسعادة؟ أم أن الماضي ما هو إلا شريط انتهت صفحاته، ولم يبقَ منه سوى الذكرى التي تتلاشى مع مرور الوقت؟”
في تلك اللحظة، وعندما كانت الغيوم قد غطت السماء تمامًا، تذكرت مريم حديث والدتها، الذي كان يرن في أذنيها كما لو كان حديثًا حديثًا: “البكاء على الماضي لن يعيده، لكنه قد يمنحك القوة لتبدأ من جديد.” كانت تلك الكلمات كالسحر الذي نفض عنها غبار الحزن. توقفت عن البكاء، ومسحت دموعها بهدوء، وأغمضت عينيها لبرهة من الوقت، لتدرك أن الحياة لا تنتظر أحدًا، وأن الماضي مهما كان غاليًا، فإنه لا يمكن أن يعود.
لم يعد في قدرتها أن تعيش في عالم من الذكريات التي لا تعود. ومع ذلك، بدأت مريم تدرك أن الماضي، على الرغم من آلامه، يحمل معها دروسًا قيمة. بدأت تشعر أن الأخطاء التي ارتكبتها لم تكن إلا خطوات على طريق النمو، وأن الأيام التي ضاعت منها لن تعود، لكنها تستطيع أن تصنع لحظات أجمل. فهمت أنها لم تكن مجرد ضحية للزمن، بل كانت جزءًا من معركة تعلمها الحياة، وأنها، مثلما تمكّنت من الوقوف في وجه الألم، فإنها أيضًا قادرة على إحداث تغييرات في حياتها.
لقد قررت مريم أن تنظر إلى الحياة بشكل مختلف. لم يعد الماضي يشكل لها تهديدًا، بل أصبح بمثابة درسًا تعلمت منه أن تقدر الحاضر. بدأت تفتح قلبها لأصدقائها القدامى، وأعطت فرصة لمعارف جديدة، وعاشت اللحظات الحالية بعيون مليئة بالأمل. أدركت أنه لا يمكنها أن تكون أسيرة للماضي، بل يجب أن تكون هي من يصنع المستقبل.
فالماضي، على الرغم من ثقله، لا يعيد ما ضاع، بل يترك لنا البصيرة لنصنع طريقًا أفضل. قد يكون البكاء على الماضي راحة مؤقتة، لكنه لن يغير شيئًا. أما التعلم منه، فهو ما يعطينا القوة لنعيش الحاضر بكل تفاصيله، وبإصرار على ألا نندم على شيء في المستقبل. فالحياة لا تنتظر أحدًا، والمهم ليس أن يعود الماضي، بل أن نصنع حاضرًا يُحتفى به، ومستقبلًا نعيش فيه دون أن نتحسر على ما مضى.
هكذا قررت مريم أن تعيش.