بقلم: الإعلامي خضران الزهراني
في أعماق جبال السراة، حيث يلامس الضباب قمم الجبال، وتتغلغل الشمس بين الأغصان لترسم لوحة ساحرة، تقف قرية ذي عين كشاهدٍ على عظمة الماضي وتفرد الحاضر. هنا، في هذا المكان الذي يحتضن التاريخ بين ذراعيه، تروي الصخور قصة 400 عام من الصمود والجمال، وتنساب المياه العذبة من عيونها كأنها همسٌ أبديٌّ يخاطب كل من مرّ بها.
البداية.. حين تحدّث الجبل
لم تكن ذي عين مجرد قرية وُجدت بالصدفة، بل كانت رؤيا حية خطّها الإنسان على صدر الجبل. حين قرر الأوائل أن يستوطنوا هذا المكان، أدركوا أن صلابة الصخور ليست عائقًا، بل كانت دعوةً لترويض الطبيعة، لصياغة مكانٍ يصبح جزءًا من روحهم، يروي حكاياتهم، ويحفظ ذكرياتهم.
فوق جبلٍ من الرخام الأبيض، بدأت أولى الحجارة تُوضع، تتراصّ بإتقان، كأنها تجسّد علاقة الإنسان بمحيطه. لم تكن هناك آلاتٌ ضخمة، ولا وسائل حديثة، بل كانت أيادي الرجال وحدها تنحت المكان، ترسم تفاصيل البيوت، وتشقّ الممرات الحجرية التي صارت فيما بعد شرايين تنبض بالحياة في هذه القرية الفريدة.
الماء.. روح المكان
ليس من الغريب أن يُطلق على هذه القرية اسم ذي عين، فهي تحتضن عينًا مائية لا تنضب، وكأن الأرض قد قررت أن تبوح بسرّها هنا، في هذا المكان بالذات. منذ مئات السنين، تدفقت المياه من قلب الجبل، تغذّي المدرجات الزراعية، تسقي النخيل والموز والرمان، وتبعث الحياة في الممرات الضيقة، حيث كان السكان يتجمعون حولها، يروون عطشهم، ويتبادلون الحكايات كما لو أن الماء كان يُنصت إليهم.
لم تكن هذه المياه مجرد مصدر للريّ، بل كانت نبض القرية، وشريانها الذي لا يزال متدفقًا رغم مرور الزمن. وفي المساء، حين يهدأ كل شيء، كان صوت الماء ينساب كأنه لحنٌ خفيٌّ يحرس القرية، يحفظ ذكرياتها، ويهمس لأهلها بأن الحياة هنا لا تنتهي.
بين الماضي والحاضر.. قصة لا تموت
رغم مرور الزمن، ورحيل الكثيرين، إلا أن ذي عين لم تفقد روحها. اليوم، صارت واحدة من أجمل القرى الأثرية في المملكة، يقصدها السياح من كل مكان، لا ليشاهدوا الأحجار فقط، بل ليستشعروا أنفاس الزمن العتيق في كل زاوية.
حين تطأ قدم الزائر أرضها، يجد نفسه محاطًا بتاريخٍ محفورٍ في الجدران، يرى البيوت الحجرية المتراصة، يسمع صدى الأقدام التي مرّت من هنا قبل مئات السنين، ويتلمّس روحًا لا تزال تعبق في أجواء المكان. هنا، لا يموت الزمن، بل يظل حيًا في تفاصيل المباني، في قطرات الماء المتدفقة، وفي حجارة لا تزال تروي قصة الخلود.
ذي عين.. ليست مجرد قرية، بل قصيدة كتبتها الطبيعة وحفظها التاريخ، لتظل شاهدة على أن الجمال الحقيقي لا يُمحى، بل يعيش إلى الأبد.