بقلم / احمد علي بكري
في عصر التواصل الرقمي، أصبح من السهل توجيه جماعات ضخمة من الناس دون أن يشعروا بذلك. يتحرك “العقل الجمعي” كتيار هائل، لا يقوده تفكير مستقل، بل يوجهه أفراد يمتلكون أجندات معينة، مستغلين قدرتهم على التأثير عبر أدوات حديثة، أبرزها وسائل التواصل الاجتماعي.
هؤلاء الأشخاص، الذين قد يبدون للبعض مجرد “مؤثرين”، في الحقيقة يمثلون نقاط تحكم في سلسلة معقدة من التحكم بالعقول. يتحكمون بمجموعات صغيرة من الناس، ثم تتفرع هذه المجموعات إلى قطعان أخرى، تتناقل الرسائل والأفكار، حتى تتكون شبكات ضخمة من الأتباع، كل منهم يظن أنه يفكر بحرية، وهو في الواقع مجرد جزء من موجة أكبر.
في هذا السياق، نرى اليوم كيف يتم تسطيح عقول الشباب. كثير من المؤثرين، بدلًا من أن يقدموا محتوى بناء، يروجون للتفاهة والكسل، ويشجعون على الهروب من المسؤولية والعمل الحقيقي. يتم تصدير نماذج حياة زائفة مبنية على الشهرة السريعة والربح السهل، دون تعب أو تطوير ذاتي. هذه النماذج تبث رسائل سلبية، تقتل الطموح، وتدمر مفاهيم الكفاح والإبداع، وهي مفاهيم أساسية لبناء وطن قوي ومتقدم.
إن النتيجة الطبيعية لهذا الوضع هي ظهور جيل متواكل، يرى أن النجاح لا يتطلب علمًا أو اجتهادًا أو خبرة حقيقية، بل مجرد ظهور على الشاشة لبث محتوى سطحي يجذب الانتباه للحظات قصيرة. وهكذا، يتحول المجتمع من ساحة للإنتاج والإبداع إلى سوق للاستهلاك السريع والتفاخر الفارغ.
ما يحدث اليوم هو “إدارة القطيع” بأسلوب حديث، حيث لا تفرض السيطرة بالقوة المباشرة، بل عبر التلاعب بالرغبات والمشاعر والانتماءات. وفي كل مرة يزداد فيها تأثير هؤلاء “القادة المزيفين”، تزداد الحاجة إلى رفع الوعي، وتنمية التفكير النقدي، وزرع قيم العمل الجاد والالتزام بالمسؤولية في أجيالنا القادمة.
إن بناء الأوطان لا يتم عبر أحلام زائفة، ولا عبر شخصيات تصنع أمجادها على حساب عقول الآخرين. بناء الوطن يبدأ بالوعي الحقيقي، والانخراط في أعمال حقيقية تخدم المجتمع وتطوره. والمهمة الأساسية أمامنا الآن هي استعادة زمام المبادرة، وتحرير العقول من سطوة القطيع، وصناعة قادة حقيقيين، يحملون أجندة واحدة: نهضة الإنسان والوطن معًا.