بقلم الإعلاميّ: خضران الزهراني
في أحد الأيام الهادئة، وبينما كان “سعد” يغرق في تفاصيل عمله في قسم التسويق الرقمي، كانت “ليان” تقفز من مهمة إلى أخرى، لا تعرف كيف تتوقف عن إظهار نفسها في الواجهة. كان “سعد” شخصًا هادئًا بطبعه، يفضل العمل خلف الكواليس، بعيدًا عن الأضواء، ويؤمن بأن النجاح لا يهم من يُنسب إليه طالما أن الفريق ينجز المهمة. أما “ليان”، فكانت تسعى دائمًا لأن تكون هي نجمة الفريق، لافتة انتباه الجميع بذكائها وبراعتها في التصرف.
لكن القصة بين “سعد” و”ليان” لم تكن تبدأ وتنتهي في مشهد واحد. كانت البداية في مشروع كبير كان الفريق قد كلف به لإعداد حملة ترويجية لمهرجان سياحي. جلس “سعد” و”ليان” جنبًا إلى جنب، تبادلوا الأفكار والنقاشات حول المشروع. بدا كل شيء مثاليًا؛ سعد يقدم الإحصائيات، وليان تضيف لمستها الجمالية والتخطيطية. كان التعاون بينهما يسير بسلاسة، وكأنهما يمثلان الفريق المثالي.
وبينما كان سعد يتساءل في نفسه عن مدى براعة “ليان”، التي كانت تتولى معظم المبادرات والتوجيهات، كان يظل مقتنعًا بأن الأهم هو إتمام المشروع بنجاح. كانت “ليان” تقدم أفكارها بجرأة، وتطلب من “سعد” أن يُساعد في تنفيذ بعض المهام التي تتطلب مهاراته الفنية مثل إعداد المحتوى وتحليل البيانات. ولكن، في النهاية، كان كل شيء يُسجل باسمه، واسم “ليان” يتصدر العناوين في كل عرض تقدمه.
بدأ “سعد” يشعر بشيء من التغيرات الصغيرة التي كانت تحدث، مثل أن “ليان” كانت دائمًا تُسجل نجاحاتها على أنها عمل فردي، وتذكره أحيانًا في خلفية حديثها كما لو أنه مجرد “داعم خلفي”. ومع ذلك، كان يبتسم، يتنفس الصبر، ويقول في نفسه: “المهم أن النجاح يظل للنهاية، سواء كان اسمي مكتوبًا أو لا.” لكن، مع مرور الوقت، بدأ الصمت يتحول إلى شيء غير مريح، شيء بدأ يزعجه.
أصبح “سعد” يلاحظ أن “ليان” تستغل كل فرصة لتكون في دائرة الضوء، بينما هو يظل في الظل، يعكف على إنجاز الأعمال. وعندما تقدمت الحملة أمام الإدارة، كانت “ليان” تلقي كلمة تُشيد بها على أنها ثمرة جهد فردي، وبينما كانت تلتفت إليه بابتسامة سريعة، كان هو يتنهد، وتمنى لو أنه نطق بشيء.
مرت الأسابيع، وتزايدت المشاعر الداخلية لـ”سعد” من frustration. كان يرى كيف تُسجل نجاحات أخرى على أنها مملوكة لها، بينما كان هو يعمل بلا كلل، ولا يذكره أحد. وفي أحد الأيام، بعد أن أتم تجهيز عرض ترويجي مميز، دخل ليكتشف أن التعديلات التي أُجريت عليه قد شوهت فكرته الأصلية. كانت التعديلات التي أضافتها “ليان” في وجه العرض تجعلها تبدو كأنها هي من ابتكر الفكرة.
حين واجه “ليان” بهذا التغيير، أجابته ببساطة ودون أي تردد:
– “عدلت عليه شوي عشان يعجب الإدارة أكثر، ما تفرق، كلكم فريق واحد.”
ابتسم “سعد”، لكن قلبه كان يصرخ. كان هذا أكثر من مجرد تعديل بسيط؛ كان تعديلاً على ما كان يُفترض أن يكون جزءًا من هويته المهنية. شعر بشيء غريب ينهار داخله، فهل كان كل هذا الصمت طوال الوقت يضر به بدلاً من أن ينقذه؟ هل كان هو من سمح لهذه التصرفات أن تتكرر تحت غطاء الصمت والتغافل؟
لم يكن “سعد” غاضبًا فقط، بل كان يشعر بمرارة الخذلان. كلما تغافل عن حقه، كان يرى أن الأمور تتجه إلى الأسوأ، وهو لا يحرك ساكنًا. قرر في تلك اللحظة أن الصمت لم يكن هو الحل، وأن التغافل قد يكون بداية لتراكمات كبيرة قد تنفجر في وجهه في النهاية.
وفي تلك الليلة، جلس “سعد” في غرفته، يكتب في مفكرته:
“التغافل ليس دائمًا حكمة… أحيانًا يكون بداية انحدار ناعم، لا تراه حتى تصطدم بالقاع.”
في صباح اليوم التالي، قرر أن يتحرك. جمع الأدلة التي تثبت جهوده، راجع رسائله الإلكترونية، وتحقق من محادثاته مع “ليان” وكتابات التقارير. لم يكن هدفه هو كشف “ليان” أو فضحها، بل كان هدفه أن ينقذ نفسه من هذا التهميش الذي أصبح يشعر به.
دخل إلى مكتب المدير العام، وقدم تقريرًا شاملاً بكل التفاصيل. كان يهدئ نفسه، فقد أصبح واثقًا مما سيفعله. قرأ المدير العام التقرير في صمت، ثم رفع رأسه وقال:
– “كنت أظنك مجرد دعم خلفي، لم أكن أعرف أنك العقل المدبر الحقيقي.”
وهنا، بدأت الأمور تتغير. تم تعديل توزيع المهام، وأُعيدت بعض المشاريع بإسم “سعد”. كما أُسنِدت إليه قيادة حملة جديدة بالكامل، وهو المنصب الذي كان يطمح إليه. أما “ليان”؟ فقد صمتت، ولكن عيونها كانت تخبره بكل شيء. لم تجرؤ على القول أي شيء بعد أن أدركت أن ما كانت تظنه من التغافل كان يشوه صورة الحقيقة التي لم يعد بالإمكان إخفاؤها.
ولكن التغافل في الحياة الزوجية… هل يختلف؟
إذا كان التغافل في العمل قد يجر وراءه مشاعر التراكم والغضب، فإن التغافل في الحياة الزوجية قد يحمل وجهًا آخر. في العلاقة الزوجية، قد يكون التغافل عن بعض التفاصيل الصغيرة أو الأخطاء غير المقصودة جزءًا من التسامح والتفاهم، بل قد يصبح أداة لإظهار الحب والتقدير للطرف الآخر. فهل التغافل في الزواج هو سمة حكيمة أيضًا؟ أم أن الصمت الدائم قد يكون فخًا يعكر صفو العلاقة؟
في الحياة الزوجية، قد يتغافل أحد الزوجين عن تصرفات صغيرة مثل تأخر الطرف الآخر عن العودة إلى المنزل في الموعد المحدد، أو نسيان موعد مهم، أو حتى تقاعس في بعض الواجبات اليومية. وهذا التغافل قد يكون مفيدًا للحفاظ على جو من الاستقرار والهدوء، لأن الحياة لا تخلو من الأخطاء.
لكن، عندما يصبح التغافل قاعدة عامة تتجاهل القضايا الكبيرة مثل غياب الاحترام أو تكرار المشاعر السلبية، فإن النتيجة قد تكون تدمير العلاقة. في “سعد” و”ليان”، كان التغافل عن الحقوق في البداية نتيجة للسلام الداخلي، لكنه في النهاية كان بداية لصراع داخلي. وفي الحياة الزوجية، يجب أن تكون هناك لحظات من التغافل، ولكن أيضًا لحظات من الصراحة، لأن الصمت الطويل قد يتحول إلى سجن يزج بالزواج إلى نهايته البطيئة.
العبرة؟
التغافل في الحياة الزوجية قد يكون أداة للحفاظ على الهدوء والحب، لكن يجب أن يكون منضبطًا. ففي العمل أو في الحياة الاجتماعية، التغافل قد يُحسن الوضع، أما في العلاقة الزوجية، فيجب أن يكون التوازن هو الهدف: تغافل عن الأمور الصغيرة، ولكن لا تتغافل عن القضايا الكبرى التي قد تهدد استقرار العلاقة.