الرئيسية مقالات القط لا يحب إلا خنّاقه!

القط لا يحب إلا خنّاقه!

82
0

 

من التذلل الفردي إلى الهوان الجمعي

بقلم: أحمد علي بكري

“القط لا يحب إلا خنّاقه”… مثل شعبي ساخر، لكنه يعكس حقيقة نفسية واجتماعية عميقة نراها تتكرر في الحياة اليومية، من أبسط العلاقات العاطفية إلى أكبر المواقف السياسية. هو وصف دقيق لحالة تعلق مرضي بالمؤذي، وتمسك غريب بمن يُهين، ورفضٌ لمن يُحسن ويصون.

أولًا: في الحياة الفردية… حين يعشق المرء من لا يراه

نرى هذه الظاهرة جلية في القصص القديمة والحديثة، في الحب الذي يتحول إلى خضوع، والعاطفة التي تتلون بالمذلة. وقد حفلت الجاهلية بقصص حب كان فيها العاشق يذوب في محبوبه، رغم الإعراض والجفاء.

انظر مثلًا إلى قيس بن الملوح، الذي هام بليلى حد الجنون، بينما هي تزوجت غيره. رفض كل من اقترب منه، لم يرَ في الدنيا إلا وجهها، وكان بإمكانه أن يعيش كريمًا بين من أحبه وأحاطه بالعناية، لكنه اختار التي أهملته، فأضاع عمره في حبٍ لم يُرد.

كذلك المنخل اليشكري، الذي هام بالخنساء وتغنّى بجمالها، بينما كانت لا تبادله مشاعره. ترك نساء قبيلته اللواتي أحببنه، واختار التعلق بمن لم تُعِره اعتبارًا.

هذه النماذج تتكرر اليوم، في صور كثيرة: شخص يهمل زوجةً محبة لأجل امرأة تجرّعه الذل، أو فتاة ترفض شابًا كريم الخلق لأجل من يسيء إليها، كل ذلك لأنهم – كما يقال – لا يحبون إلا “الخناق”!

ثانيًا: على مستوى المجتمعات… من الذل للعدو إلى جحود المحسن

هذه الحالة لا تقتصر على الأفراد، بل نراها اليوم بين الشعوب، حيث تتجلى المفارقة المريعة: شعوب تُهاجم السعودية، بينما تتذلل لإيران!

رغم أن المملكة العربية السعودية وقفت مع جيرانها مرارًا، بالمال، بالإغاثة، بالدواء، بالجهود السياسية، والدبلوماسية، ورغم أنها مدت يد الخير للدول التي مزقتها الحروب والتدخلات الخارجية، فإن بعض هذه الشعوب – أو لنقل بعض أبنائها المضللين – لا يتورعون عن مهاجمتها، وتحميلها مسؤولية ما لا علاقة لها به، بينما يُغضّون الطرف عن ممارسات طهران العدائية تجاههم.

أمثلة صارخة:

في لبنان، تُتهم السعودية بأنها تدخل في الشأن اللبناني، بينما تغض بعض الفئات الطرف عن هيمنة “حزب الله” الذي خرب الاقتصاد، وأفقد لبنان استقلاله الفعلي، وجعله تابعًا لقرار الولي الفقيه.

في العراق، يتظاهر البعض ضد الدول العربية، بينما لا ينبسون ببنت شفة ضد الميليشيات التي تحكم الشارع وتنفذ أجندات طهران، بل يعتبرونها “مقاومة” و”حُماة”.

في اليمن، رغم أن السعودية تقود التحالف لإنقاذ الشعب اليمني من براثن الحوثي، نسمع أصواتًا – معظمها مدفوعة الأجر – تتهم المملكة بالعدوان، بينما تمجّد ميليشيا الحوثي التي انقلبت على الدولة، ونهبت الشعب، وجعلت من صنعاء ساحة حرب.

ثالثًا: لماذا هذا الانقلاب في القيم؟ ولماذا يُحب القط خنّاقه؟

السبب في ذلك يعود إلى عدة عوامل:

الاعتياد على الألم: البعض يُخدَع، فيظن أن من يقسو عليه هو من يحبه، تمامًا كما يُسيطر العدو باسم “الدين” أو “المذهب”.

الإعلام المضلّل: ترويج الصورة الزائفة عن إيران كمحررة، والسعودية كمتسلطة، رغم أن الواقع عكس ذلك تمامًا.

الاستثمار في الطائفية: إيران تتقن اللعب على وتر المذهب، فتُلبس الاستعمار ثوب القداسة، فيخضع له الناس عن قناعة لا عن خوف.

العقلية العاطفية غير التحليلية: التي تُسقط العدل الحقيقي وتبحث عن بطولات وهمية، فتميل إلى من يرفع شعارات رنانة ولو كانت جوفاء.

الختام:

إن التذلل لمن يُهينك خيانة لنفسك أولًا، وخيانة لأهلك وأرضك ثانيًا.

وإن كنت فردًا، فاحذر أن تُقصي من يحبك وتلهث وراء من يحتقرك.

وإن كنت من أبناء أمة، فاعلم أن العزة لا تأتي ممن يحتلك باسم الطائفة أو المذهب، بل ممن يُعزك باسم الأخوّة والإنسانية.

لا تكن كـ”القط الذي لا يحب إلا خنّاقه”، وكن ممن يحب من يصونه، لا من يهينه.