الرئيسية مقالات رحلةٌ من العذاب إلى الأمان: حكاية الحجيج في زمنٍ مضطرب

رحلةٌ من العذاب إلى الأمان: حكاية الحجيج في زمنٍ مضطرب

106
0

 

بقلم: أحمد علي بكري

في عام 1347هـ/1929م، خطت أقدام الحجيج طريقهم حاملين آمالهم ومعاناتهم، بعدما تكبّدوا مشاق الرحلات الطويلة عبر الصحارى والبحار، محفوفين بخوف دائم من النهب والاعتداء. وفي وصفه المؤثر، يروي أرسلان هذه اللحظات بعذوبة الأدب وصدق المشاعر:

“كانوا يذوبون من الشوق على ما فاتهم، ويتحرقون من الوجد، ويبكون بصيب الدمع… والناس بأجمعهم يحوقلون ويقولون: (ليس لها من دون الله كاشف)”

تجسد هذه العبارة في كلمات أرسلان صورةً حزينةً لحالة الحجاج الذين وجدوا أنفسهم ضحاياً لظروفٍ خانقة، حيث كانت طرقهم مفروشة بآلام غدرتها عصابات الطرق والأعراب الذين كانوا يشكلون داءً لا يمكن شفاؤه بحيلة أو وسيلة. وهكذا وصف حال الأمة آنذاك:

“ذهبوا إلى أن سطو الأعراب داءٌ لا تنفع فيه حيلة ولا وسيلة، وقد عمّت بهم البلوى”

كانت هذه الكلمات بمثابة مرآة تعكس واقعًا مؤلمًا، حيث كان الحج يتحول من عبادة تُرتقب بشوق إلى تجربة محفوفة بالمخاطر والهموم.

الملك عبد العزيز: من الظلام إلى نور الوحدة والأمان

ما إن بزغ فجر الدولة السعودية الحديثة، حتى بدأت صفحات التاريخ تُكتب بحبرٍ مختلف. يظهر في كتاب أرسلان شهادةٌ تاريخية عن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، مؤسس الدولة السعودية الثالثة، الذي استطاع أن يُغير مسار الأحداث ويُعيد للأمة أملها وحبها لأرضها المقدسة. يقول أرسلان وهو ينقل مشهداً تاريخياً خالداً:

“فلمّا استولى ابن سعود على الحجاز، ونشر سلطته فيه، تبدل الحال. واستتب الأمن في البر والبحر، وأصبح الحاج لا يخاف إلا الله وحده، لا على نفسه ولا على ماله.”

بهذه الكلمات، يؤكد أرسلان أن دخول الملك عبد العزيز إلى الحجاز لم يكن مجرد فتحة جديدة، بل كان فصلًا من فصول الأمان الذي طال انتظاره. فقد أعاد هيبة الحرمين الشريفين، ليس فقط داخل مدينة مكة والمدينة، بل على الطريق الطويل الذي يصل بينهما. كانت تلك اللحظات التي شهدت تحوّلًا جذريًّا في واقع الحجيج، حيث لم يعد المهاجرون ينتظرون بصبرٍ أملاً باهتاً، بل وجدوا في حكومةٍ عادلةٍ نظامًا صارمًا يحميهم من كل سوء.

مقاطع مُقتطفة تُخلّد الحقائق: كلماتٌ من قلب الحدث

اعتمد أرسلان في كتابه على الملاحظة الدقيقة والشهادة الحية، مما جعله يستخدم اقتباساتٍ صادقة تعكس تفاصيل معاناتهم وتجليات الأمان الجديد. ومن بين هذه المقتطفات التي زادت من وقع الحكاية في النفوس:

“رأينا كيف ينهض رجلٌ من بين الناس، يقف وحيدًا في وجه المعتدين، ليس له وقاية إلا ثقة العبد بربه؛ فحين تُقام العدالة، لا مكان للظلم بين الحجاج.”

يبرز هذا النص أهمية الحكم العادل في بناء دولة تحمي حقوق الضعفاء، وهو ما تحقق على يد الملك عبد العزيز الذي كان له نصيب بارز في تنفيذ العدالة دون تحيز أو محسوبية. فقد تأكدت عين أرسلان من أن الدولة الجديدة قد وضعت نهايةً لعهد الفوضى الذي كان يُخيم على طرق الحج.

ولم يقف وصفه عند هذا الحد، فقد تناول أرسلان كذلك حكاية أحد الحوادث التي لامست جوهر التغيير:

“لقد رأينا بأعيننا كيف أن رجلًا من إحدى القبائل قد اعتدى على أحد الحجاج، فتم القبض عليه وتنفيذ الحكم فيه دونما تأخير أو استثناء؛ بيانًا للجميع أن النظام قد حل وأن من يحاول انتهاك حقوق الحجاج لن يجد لهم سندًا أو ملاذًا لدى القبائل.”

إن هذا الاقتباس يُعد بمثابة إقرار علني بأن الدولة السعودية لم تعد مكانًا لحماية المهاجمين، بل أصبحت حاميًا للمستضعفين، مواطنًا في تأمين بيئة يسودها النظام والعدالة.

تصاعد الأمان: من الحاضر إلى المستقبل

من خلال قراءة كتاب «الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف»، يتبين لنا أن أرسلان كان يشهد على ولادة عصرٍ جديد في تاريخ الأمة الإسلامية، حيث اجتمعت قيم الشجاعة والعدل تحت راية دولة واحدة. فقد كتب:

“لقد تحول الحج من رحلة محفوفة بالمخاطر إلى تجربة روحية آمنة، حيث لا يعكر صفوها سوى همم الشعب الذي يسعى لحماية أمان الحرمين.”

إن هذه الكلمات ليست مجرد وصفٍ حالَةٍ آنية، بل هي رؤيةٌ عميقةٌ تربط بين الماضي والحاضر، وتُبرز الدور الحيوي للدولة في حماية العبادات وتسهيل مناحها. وفي هذا السياق، نجد أن المملكة العربية السعودية اليوم ما زالت تحافظ على هذا المبدأ، وتجعل من الأمان شعارًا يُرسم في تفاصيل كل معاملة وكل رحلة.

إرثٌ خالد: شهادةٌ لا تنسى

ختامًا، تُعد كلمات الأمير شكيب أرسلان في «الارتسامات اللطاف» وثيقةً تاريخيةً مرصعةً بعبق الأمل والتغيير؛ شهادةً تخلد لحظات التحوّل الاجتماعي والسياسي الذي مهد الطريق لجيلٍ جديدٍ من الحجيج يعيشون في ظل دولةٍ عادلةٍ وأنظمة صارمة. وفي عدة مقاطعٍ من الكتاب نجد:

“رحلة الحج لم تعد تعتبر مخاطرةً، بل هي عهدٌ جديدٌ يثبت أن الأمن والعدل قادران على تحويل معاناة الشعوب إلى قصص انتصار لا تُنسى.”

لقد أرسلان، بقلمه الرفيع، جَسَّد صورةَ دولةٍ أصبحت رمزًا للأمان والحماية، دولةٌ تنير درب الحجاج وتثبت أن العدالة ليست مجرد شعارٍ، بل واقعٌ ملموسٌ تحقق على يد مؤسس دولةٍ عَظيمةٍ، الملك عبد العزيز.

إنها قصةُ تحوّلٍ من الظلام إلى النور، من الفوضى إلى النظام، تظل حاضرة في قلوب من آمنوا بأن الأمل يُبنى بالعزيمة والإرادة، وبأن التاريخ لا يُنسى عندما يُكتب بأحرفٍ من ذهب.