محمد الرياني
…وكأني أراكِ ( شِلخةَ )الكاذي التي قطفتُها من الوادي الذي لا ينضب ، كنتُ مفتونًا بأشجارِ النخل وهي تصطفُّ على جانبي الوادي ، قدماي تشربان من ( الغَيْل ) وفي فمي عطشٌ يريد أن يرتويَ مثلَ قدميَّ ، لكني آثرتُ أن ترتويَ قدماي حدَّ الارتواء ، ثمَّ ألقيتُ نفسي في النهرِ الجاري لأشربَ بينما الأغرابُ من حولي ينظرون إلى فتىً يشرب على غيرِ طريقتهم ، شربتُ حدَّ الارتواء وعدتُ أنظرُ إلى النخلِ وكأني أرى النخلَ سامقًا من أجلي ، من أجلِ أن أكونَ أسعدَ فتىً تمددتْ قدماه في النهر الخالد ، أو أروعَ مَن بلَّلتْ شفتاه حلاوةُ الماءِ العذب ، أغمضتُ عينيَّ كي أرى حُلمَ الطفولة ، قطفتُ كاذيةً تفوحُ شذىً لا يوصف ، كبرتُ وصار لونُ شَعري قريبًا من لونِ الكاذي لدرجةٍ أنني أستروحُ رائحةَ الكاذي تعبقُ في رأسي ، كبرتُ وعندما رأيتكِ تذكرتُ الوادي الذي نضبَ وترك حسناءَ نبتتْ على إحدى ضفتيه ، صارتْ نخلةً مثلَ تلك التي شهدتْ على مغامرةٍ خالدة ، لم يعد هناك أغرابٌ يشهدون على تفاصيل رحلةِ الذي شربَ من النهرِ أو مُتيَّمٍ عاد من رحلتِه بكاذية ، تركتُ الوادي الذي شربتْ ماءَه الأرضُ وبقي في جوفها ، حزنتْ النخيلُ على الماءِ حتى شحبَ وجهُها ووقعتْ على الأرضِ تنتحب ، رأيتكِ في الكبرِ وكأنكِ وجهُ الوادي ، بقيتُ أنتحبُ على وجهِ النخيل وفي فمي طعمُ مائه ، وأمام عيني وجهُ حسناءَ لا أكاد أراه ؛ لأن العُمرَ تجاوزَ عُمرَ الماءِ منذ أن نسيَه الوادي في بطنه .