الرئيسية محلية حينما يتكلم التراث… وتهمس الحكمة في بيت الثقافة بجازان

حينما يتكلم التراث… وتهمس الحكمة في بيت الثقافة بجازان

94
0

بقلم: رمزي حوباني

في صورةٍ تسكنها المهابة، وتتنفّس من عبق الأزمنة البعيدة، نرى رجلًا قد غزا الشيبُ حاجبيه، وخضّب الحنّاءُ لحيته، وقد أسدل على رأسه شماغاً كأنه ظلّ الحكمة التي تلازمه. بين يديه كتابٌ خطّته أنامل الأجداد، وبلسانهم القديم يدقّ أبواب الذاكرة، بينما يمسك القلم كأنّه يمسك سيفًا من سيوف الكلمة، يدافع به عن هويةٍ لا تعرف الانطفاء.

هذه الصورة ليست مجرّد مشهد، بل هي صفحة من دفاتر الزمن، حيث تكتب الحكمة نفسها، وتُحفظ بمداد الوقار، والتأمل، والوفاء لما كان. هي لسانٌ ناطق باسم الموروث، وجهٌ حفرته الأيام، ولكن بقي صلبًا، شامخًا، لا ينسى.

وهنا، تتقاطع هذه الملامح مع دور بيت الثقافة في جازان، ذاك البيت الذي لا تُسكَن جدرانه إلا بالمعرفة، ولا تُفرَش أرضه إلا بحنين الإنسان إلى جذوره. بيت الثقافة في جازان ليس فقط مكانًا، بل ذاكرة حيّة، ينبض بالحرف، ويشتعل بالحكاية، ويهمس في أذن كل زائر: “هنا تُصان القصّة، هنا يُوقَف النزيف من ذاكرةٍ أوشكت أن تُنسى”.

في هذا البيت، لا تكون الثقافة حدثًا عابرًا، بل كينونة متجددة، ومسؤولية تُحمَل على عاتق الشعراء، والمؤرخين، والحرفيين، وكهول الحكمة، الذين يشبهون من في الصورة. إنهم حرّاسُ الذاكرة، وحماةُ اللهجات، وعشاقُ القصص التي تنبت بين الحجارة والسهول.

بيت الثقافة في جازان هو بمثابة القلب الذي يضخّ الحياة في شرايين الموروث، يحوّل التراث من رمادٍ إلى شعلة، ومن وثيقةٍ منسية إلى مشروعٍ حيّ يتجدّد مع كل جيل. إنه مدرسة من لا مدرسة له، وملجأ الباحث عن ذاته في حضن أمه الأولى: الأرض.

في الختام، ليست الصورة مجرّد رجل يقرأ، بل هي مرآة شعب، ونُسخة مصغّرة من روح جازان، بجذورها العميقة، ولهجتها الأنيقة، وتاريخها المضمّخ بحبر الجدات وسعف النخيل. وكما يمسك هذا العجوز بالقلم، تمسك جازان بثقافتها، وتكتبها في ذاكرة الزمن، لا لتنساها، بل لتبدأ بها دائمًا .