بقلم: أحمد علي بكري
بعيدًا عن العواطف الجياشة والشعارات الرنانة والمغالطات المبطّنة التي تُطرح تحت غطاء “نصرة الحق” وهي تحمل في باطنها مقاصد خفية، دعونا نفتح هذا الملف بميزان العقل والمنطق، لا باندفاع العاطفة. القضية التي نتحدث عنها اليوم هي القضية الفلسطينية، وبالتحديد: متى وكيف تحولت إلى ما يُشبه الفريضة العقدية التي يُكفَّر من لا يتبناها، بل ويُعظِّمها بعضهم كما يُعظِّم الشيعة زيارة كربلاء، حتى طغت في عقولهم على الحج والعمرة، وغيّبت تركيزهم عن مقدساتهم الحقيقية: مكة المكرمة والمدينة المنورة.
أنا لا أدعو هنا للتنازل عن عروبة فلسطين أو قدسية المسجد الأقصى، فهذا ثابت من ثوابت الأمة الإسلامية، ولكن هدفي هو إعادة ترتيب سلم الأولويات، ووضع الحقائق التاريخية والدينية أمام القارئ كي يعرف موقعه الحقيقي: هل هو على الجادة الصحيحة، أم تم جره دون وعي وراء شعارات سياسية حتى تغيّرت بوصلته عن الأهم إلى المهم؟
بداية الترويج لفلسطين كقضية الأمة الأولى
عند العودة إلى الوثائق التاريخية، نجد أن تعظيم القضية الفلسطينية بالشكل الذي نراه اليوم لم يكن حاضرًا في القرون الأولى للإسلام، ولا حتى في صدر الدعوة. هذا الزخم الكبير بدأ يتصاعد سياسيًا في القرن العشرين، خاصة بعد الاحتلال البريطاني لفلسطين ثم قيام الكيان الصهيوني عام 1948.
لكن التحويل العقائدي للقضية إلى معيار للإيمان والولاء لم يكن من إنتاج علماء الأمة المتجردين، بل جاء عبر أنظمة وجماعات ذات أهداف سياسية، وجدت في “شعار فلسطين” وسيلة لتعبئة الجماهير وتغطية إخفاقاتها الداخلية، أو لصرف الأنظار عن قضايا عقدية أشد خطورة.
الأبعاد التاريخية والسياسية لتضخيم القضية الفلسطينية
1. الحقبة القومية العربية
في الخمسينيات والستينيات، استخدم زعماء القومية العربية القضية الفلسطينية كأداة لتوحيد الشعوب خلف أنظمتهم، وللتغطية على القمع الداخلي والفشل الاقتصادي. جمال عبد الناصر كان أبرز من رفع شعار “تحرير فلسطين” لتعبئة الشارع العربي، بينما كانت هزيمة 1967 مثالًا على الانفصال بين الشعارات والواقع.
2. دخول جماعة الإخوان المسلمين
مع توسع نفوذ الإخوان، جرى تقديم القضية الفلسطينية كأداة مركزية في خطابهم، لربطها بفكرة “الأمة الواحدة” تحت قيادتهم، ولإيجاد منصة شعبية تُكسبهم الشرعية أمام الجماهير المسلمة، حتى لو على حساب القضايا العقدية الداخلية.
3. البعد الإيراني
منذ ثورة 1979، وظّفت إيران القضية الفلسطينية، خاصة عبر دعم حركات مسلحة، لتوسيع نفوذها الإقليمي وكسب تعاطف الشارع العربي السني. في الوقت نفسه، تغاضت عن الاعتداءات على مكة والمدينة من قبل أذرعها في اليمن، ما كشف أن “الأقصى” في خطابها كان أداة سياسية لا أكثر.
4. التيارات اليسارية والليبرالية
حتى الحركات اليسارية والليبرالية العربية التي لا تؤمن أصلاً بالمرجعية الإسلامية، استثمرت في شعارات “تحرير فلسطين” لكسب الشعبية، مع توظيفها في إطار أممي أو ثوري بعيد عن العقيدة الإسلامية.
5. تغييب الأولويات الشرعية
مع مرور العقود، بدأ بعض الخطباء والدعاة يربطون معيار الولاء للإسلام بمقدار التفاعل مع القضية الفلسطينية، حتى صار السكوت عن قضايا عقدية داخلية — مثل الشركيات الصوفية أو التغلغل الشيعي — أمرًا معتادًا، بينما كل الطاقات موجهة نحو فلسطين.
6. الصمت عند المساس بالحرمين
حين تعرّضت مكة والمدينة لهجمات بالصواريخ من الميليشيات الحوثية، كان الصمت أو حتى التبرير حاضرًا عند بعض من يرفعون شعار “الأقصى”، وهو ما يكشف عن خلل خطير في ترتيب الأولويات والمقدسات.
7. التمويل الخليجي والموقف المبدئي
منذ اندلاع الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، كانت المملكة العربية السعودية ودول الخليج في طليعة الداعمين للشعب الفلسطيني، سياسيًا وماليًا، وبشكل مستمر منذ عقود. هذا الدعم لم يكن مجرد شعارات أو دعاية سياسية، بل شمل تمويل مشاريع الإغاثة والبنية التحتية، ودعم المؤسسات الفلسطينية الرسمية، والمساهمة في صمود الشعب على أرضه.
انطلق هذا الموقف من منطلق إسلامي وعربي أصيل، يعكس إدراك هذه الدول لمسؤوليتها الدينية والقومية، بعيدًا عن توظيف القضية لأجندات حزبية أو طائفية كما فعلت أطراف أخرى.
لماذا تُحارب السعودية؟
من يقرأ مسار التاريخ السياسي في المنطقة يدرك أن هناك خيطًا مشتركًا يربط بين الحملات التي تستهدف السعودية قديمًا وحديثًا. السبب الجوهري هو أن المملكة — منذ تأسيسها — جعلت من التحاكم إلى شرع الله أساسًا لشرعيتها، وربطت كيانها الديني والسياسي مباشرة بالحرمين الشريفين، فأصبحت مكة والمدينة قبلة قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
هذه المكانة الروحية الفريدة جعلت التأثير الديني والشرعي للمملكة يتجاوز حدودها الجغرافية، وهو ما يثير حفيظة التيارات والأطراف التي تريد تحويل ولاء المسلمين الروحي من الحرمين إلى “قدسيات بديلة” أو “رموز وهمية” تخدم مشاريعهم السياسية أو الطائفية، مثل كربلاء في الحالة الشيعية أو تحويل فلسطين إلى القضية الأولى بمعناها العقدي.
الخاتمة: إعادة ترتيب الأولويات
القضية الفلسطينية قضية عربية وإسلامية لا شك، ولكنها ليست “القضية الأولى” بمعناها العقدي، ولا يصح أن تكون مقياس الإيمان. الأولى والأعظم في سلم الولاء والغيرة هو حماية عقيدة التوحيد وصيانة الحرمين الشريفين، ثم يأتي الدفاع عن باقي مقدسات المسلمين، ومنها الأقصى.
من لا يفرّق بين “المهم” و”الأهم” سيتحول إلى أداة في يد من يوجّهون الشعارات حيث يشاؤون، حتى لو أدى ذلك إلى إضاعة الأصل في سبيل الفرع.






