الجزائر _ كمال فليج
في أقصى الغرب الجزائري، حيث تتداخل أنغام الغرناطي مع خرير الشلالات، ترتسم تلمسان كقصيدة خالدة على صفحات الزمن. ليست مجرد مدينة، بل روح حضارة تنبض في كل زاوية، وحكاية عشق بين الحجر والإنسان، بين الماضي العريق والحاضر المشرق.
تلمسان، التي لُقبت بـ”لؤلؤة المغرب العربي”، ليست فقط مدينة على خارطة الجزائر، بل هي متحف حي يجمع بين التاريخ والفن والطبيعة. عاشت في كنفها حضارات متعددة، من الرومان إلى المرابطين والموحدين ثم الزيانيين، حتى صارت عاصمة للعلم والتجارة ومركزًا للأدب والفكر.
في العهد الزياني، بلغت أوج ازدهارها، فكانت قبلة العلماء والفنانين، وميدانًا للتبادل التجاري بين إفريقيا وأوروبا. وما زالت مآثر تلك الحقبة شاخصة إلى اليوم، من المسجد الكبير إلى مدرسة العباد ومنارة المنصورة، لتشهد بأن تلمسان كانت ولا تزال عاصمة الحضارة.
لا تقتصر تلمسان على معمارها العتيق، بل تزدان كذلك بجمال طبيعي يأسر القلوب. في مغارات بني عاد، تنحني الصخور لتروي قصص آلاف السنين، فيما تسكب شلالات لوريط أناشيدها على الجبال الخضراء. أما عيون المياه مثل عين فزة، فهي تنبض بالحياة وتمنح المدينة طابعًا فريدًا يمزج بين الصفاء والجمال.
ومن أبرز معالم تلمسان التي تأسر الزائر هضبة لالة ستي، تلك البقعة العالية التي تعانق السماء وتطل على المدينة كلوحة بانورامية ساحرة. ارتبطت بأسطورة “لالة ستي”، المرأة الصالحة التي تحولت مزارًا روحانيًا ومعلَمًا تاريخيًا. على قمتها، يستشعر الزائر عظمة المكان ، حيث تلتقي الروح بالطبيعة، ويكتشف جمال تلمسان من علٍ، كأنها مدينة مرسومة بريشة فنان.
و على تخوم مدينة تلمسان، حيث تعانق الهضاب زرقة السماء، تقف قلعة المنصورة شامخة رغم أنف الزمن. جدرانها المتآكلة، وأسوارها التي التهمتها الرياح، لا تزال تهمس بحكاية حصار طويل وصراع حضارات نقش على أرض الجزائر ذات قرون مضت.
بُنيت القلعة سنة 1299م بأمر السلطان المريني يعقوب بن عبد الحق، لتكون أكثر من مجرد حصن عسكري. لقد وُلدت مدينة جديدة بين الأسوار، بمسجد كبير لا تزال مئذنته المربعة تشق السماء بارتفاع يتجاوز 38 مترًا، شاهدة على براعة المعمار المريني وروح العصر.
لم تكن المنصورة مسكنًا للراحة، بل قاعدة للحرب، مركزًا يطل على تلمسان ليخنقها اقتصاديًا ويطوّقها عسكريًا. ثمانية أعوام من الحصار حولت المكان إلى أسطورة، حيث ارتسمت على جدرانه معاني الصمود والتحدي، وتصارعت فيه عزائم المرينيين والزيانيين على مصير المدينة.
على حافة الغرب الجزائري، تتربّع لالة مغنية كجوهرة على خط الحدود، مدينة تحمل في اسمها قداسة الوليّة الصالحة، وفي ملامحها عبق الحضارة وروح المقاومة.
من بساتين الزيتون وكروم العنب إلى ينابيعها الرقراقة، تبدو وكأنها واحة منسوجة بخيوط الطبيعة والذاكرة.
عرفت لالة مغنية أدوارًا كبيرة في تاريخ المنطقة، كانت معبرًا للقوافل ومسرحًا لصوت البنادق أيام المقاومة، ثم غدت جسرًا إنسانيًا بين الشعوب، مهما حاولت الحدود أن تباعد.
واليوم، تبقى المدينة فضاءً يجمع بين بساطة العيش وثراء التراث، حيث تنبض شوارعها بروح الأندلس وتلمع في وجوه أهلها ملامح الكرم الأصيل.
مغنية مدينة تختصر الوطن في معنى، والتاريخ في حكاية، والروح في همسة عابرة للحدود.
و في قلب تلمسان، حيث تختلط رائحة التاريخ بأنفاس الحاضر، يقف قصر المشور كجوهرة حجرية تحفظ أسرار الملوك. جدرانه الشامخة تحكي عن زمن الزيانيين، حين كان القصر عرشًا للسلطان، وملاذًا للشعراء والعلماء، وقلعة تُرهب الأعداء.
كان المشور أكثر من قصر، كان مدينة داخل مدينة: ساحات تغمرها الشمس، حدائق تعبق بالياسمين، وزخارف تنطق بلغة الجمال الأندلسي و الجزائري. بين جدرانه دارت المفاوضات، كُتبت العهود، ونسجت خيوط التاريخ.
عند آخر حدود البلاد نحو الغرب، تتمدد مرسى بن مهيدي كلوحة من نور وماء. شاطئها الذهبي يُعانق زرقة المتوسط، وجبالها الخضراء تُظلّل المكان بلمسة سحر لا يملّها البصر.
هي ليست مجرد مدينة صغيرة، بل عروس تنبض بالحياة كل صيف، حيث يلتقي الزائرون من كل صوب بحثًا عن صفاء البحر وهدوء الطبيعة. تحمل اسم الشهيد البطل بن مهيدي، لتُزاوج بين جمال المكان وقداسة التاريخ.
في مرسى بن مهيدي، يتوقف الزمن قليلًا ليمنحك متعة التأمل، وكأن البحر يهمس لك: هنا الجزائر في أجمل صورها، وهنا الأرض تكتب شعرها برمال من ذهب وموج لا يهدأ.
تلمسان أيضًا موطن الروح الأندلسية، حيث تتردد أصداء موسيقى الغرناطي في بيوتها وأسواقها. ومن أيدي حرفييها تخرج التحف التقليدية: النحاسيات، الجلود، والزرابي التي تنسج حكايات الأجداد بخيوط من صبر وإتقان. إنها مدينة يعيش فيها الفن كما يعيش الناس، يزدهر مع الزمن ويزداد قيمةً كلما مرّت عليه الأعوام.
عام 2011 تُوجت تلمسان بلقب عاصمة الثقافة الإسلامية، وهو تكريم لمكانتها الفريدة في العالم العربي والإسلامي. واليوم، تواصل المدينة دورها كوجهة سياحية وثقافية، تستقبل الزوار من كل مكان، حاملةً رسالة الجمال والأصالة إلى الأجيال القادمة.
تلمسان، ليست حجارة ولا أطلالًا، بل نغمة خالدة في ذاكرة الجزائر. في معالمها يكتب التاريخ سطوره، وفي طبيعتها يتجدد السحر، وفي قلوب زوارها يولد الحنين من جديد. إنها قصيدة لا تنتهي، مدينة لا تشيخ، ولؤلؤة يزداد بريقها مع مرور العصور.







