بقلم أحمد علي بكري
نعي خاص من أسرة البكري بجازان
بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، تتقدم أسرة آل بكري في جازان بأحرّ التعازي وصادق المواساة إلى دولة الكويت الشقيقة، وإلى أسرة الفقيد الدكتور عماد العتيقي، في رحيل هذه القامة العلمية الكبيرة. لقد فقدت الأمة العربية أحد أبنائها الأفذاذ الذين جمعوا بين العلم والخلق والقيادة، وكانوا مثالاً للعطاء اللامحدود والتفاني في خدمة وطنهم وأمتهم. نسأل الله العلي القدير أن يتغمده بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
مسيرة أكاديمية ومناصب قيادية
رحل الدكتور عماد العتيقي تاركًا خلفه سيرة ثرية تستحق أن تُروى بتفصيل وإكبار. فقد تولّى خلال حياته عدداً من المناصب القيادية التي جمعت بين المسؤولية الأكاديمية والوزارية والاستراتيجية.
ففي عام 2024، عُيّن نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للنفط في دولة الكويت. كان هذا التعيين تتويجًا لمسيرة علمية وعملية امتدت لعقود، ولم يأتِ من فراغ، بل جاء انعكاساً لثقة الدولة في خبراته ورؤيته الاستراتيجية. وفي فترة وجيزة من تولّيه الوزارة، أسهم العتيقي في دفع عجلة تطوير السياسات النفطية بما يتماشى مع التحديات الإقليمية والعالمية، حيث كان مؤمناً أن النفط ليس مجرد سلعة اقتصادية، بل ركيزة أمن قومي واستقرار اقتصادي.
ولم تكن الوزارة سوى محطة واحدة في مسيرته. فقد ترأس بين عامي 2011 و2018 جامعة الشرق الأوسط الأميركية في الكويت، حيث ترك بصمة واضحة على مسار التعليم العالي. في تلك السنوات، قاد الجامعة نحو العالمية، وعمل على استقطاب الكفاءات العلمية، وتحديث المناهج، وبناء بيئة تعليمية حديثة تستجيب لمتطلبات سوق العمل، واضعاً نصب عينيه أن الجامعة ليست مبنى بل مصنع للعقول.
أما في الفترة من 2003 إلى 2010، فقد كان الدكتور العتيقي الأمين العام المؤسس للأمانة العامة لمجلس الجامعات الخاصة، وهو منصب يُحسب له تاريخياً؛ إذ ساهم في رسم الإطار التنظيمي الذي مكّن الجامعات الخاصة من النهوض والمنافسة، وأرسى قواعد الجودة الأكاديمية، ووضع اللبنات الأولى لنهضة التعليم الجامعي الخاص في الكويت.
وعلى الصعيد الأكاديمي البحت، تولى منصب عميد كلية الهندسة والبترول في جامعة الكويت (1998 – 2000)، حيث عرفه الطلاب وزملاؤه قائداً تربوياً، قريباً من القاعات الدراسية، داعماً للمبادرات الطلابية، وساعياً لتطوير الكلية بما يتماشى مع حاجات السوق الوطني في قطاع النفط والطاقة. كما شغل قبلها منصب مدير إدارة البحوث في جامعة الكويت (1991 – 1994)، حيث عمل على تنشيط الحركة البحثية وربطها بخطط التنمية الوطنية.
أما على المستوى الاستراتيجي، فقد كان عضواً بارزاً في المجلس الأعلى للبترول (1990 – 2013)، حيث ترأس لجنة الاستراتيجيات، وشارك بفعالية في اللجان الفنية الأخرى. كان صوته مسموعاً في رسم السياسات النفطية، وقراراته مؤثرة في وضع خطط مستقبلية ضمنت للكويت موقعها الريادي بين دول أوبك.
جذور علمية وتأهيل راسخ
الدكتور العتيقي لم يكن إدارياً وحسب، بل كان عالماً أكاديمياً مؤهلاً من أرقى الجامعات. بدأ مشواره العلمي بالحصول على درجة البكالوريوس في الهندسة الكيميائية من جامعة الإسكندرية عام 1978، وهي المرحلة التي صقلت لديه شغف البحث والدراسة، وزرعت في داخله بذور التعمق في علوم الهندسة.
ثم تابع دراساته العليا في الولايات المتحدة الأميركية، حيث نال الماجستير ثم الدكتوراه في الهندسة الكيميائية من جامعة ليهاي في بنسلفانيا عام 1985. هناك، في بيئة أكاديمية متقدمة، انفتحت أمامه آفاق البحث العلمي الحديث، فاكتسب أدوات التحليل والمحاكاة، وأتقن مناهج البحث التي مكنته لاحقاً من بناء مدرسة علمية متكاملة عند عودته للكويت.
باحث موسوعي وإسهامات علمية
إلى جانب المناصب التي تقلّدها، برز اسم الدكتور عماد العتيقي كباحث موسوعي له أكثر من 80 بحثاً علمياً منشوراً في مجلات محكّمة ومؤتمرات وكتب متخصصة. شملت أبحاثه موضوعات دقيقة مثل:
المحاكاة والتحكم في عمليات تكرير النفط.
تحليل مشتقات البترول وتطوير طرق أكثر كفاءة لاستخلاصها.
اقتصاديات التكرير والبتروكيماويات والعمليات الكيميائية.
تطوير النماذج الرياضية للعمليات الصناعية المعقدة.
لم تكن هذه الأبحاث مجرد أوراق علمية، بل كانت مراجع يستفيد منها الباحثون وصناع القرار في آنٍ واحد. لقد جسّد نموذج الباحث الذي يربط بين النظرية والتطبيق، بين المختبر وواقع الصناعة.
جهود في علم النسب الجيني
وما يثير الإعجاب أن اهتماماته البحثية لم تقتصر على النفط والهندسة الكيميائية، بل امتدت إلى مجال علم النسب الجيني، وهو علم حديث يدرس البصمة الوراثية للإنسان وربطها بأصوله وأنسابه وتاريخه.
انطلق العتيقي في هذا المجال من إيمانه بأن العلم يجب أن يخدم الإنسان في جميع أبعاده، المادية والمعنوية. فعمل على توظيف أدوات الكيمياء التحليلية والمحاكاة لفهم التفاعلات الجينية، ودراسة كيف يمكن استخدام المعلومات الوراثية في:
توثيق الأنساب وربطها علمياً بالتاريخ الشفهي.
دراسة البنية السكانية في المنطقة العربية.
المساهمة في التطبيقات الطبية المرتبطة بالأمراض الوراثية.
لقد كان العتيقي يرى في علم النسب الجيني جسراً يصل الماضي بالحاضر، ويمنح المجتمعات العربية فرصة لتوثيق تاريخها برؤية علمية دقيقة، بعيداً عن الروايات المتوارثة فقط.
إرث خالد ورحيل مؤثر
إن رحيل الدكتور عماد العتيقي لا يمثل فقدان شخصية عامة فحسب، بل هو خسارة لقامة علمية ووطنية خدمت الكويت والعالم العربي بعلمها وعملها. لقد جسّد في مسيرته معنى التوازن بين العالم والقيادي، وبين الأكاديمي وصانع القرار. سيبقى اسمه محفوراً في ذاكرة الكويت والأمة العربية، كرمز من رموز العلم والعطاء والريادة.
رحم الله الدكتور عماد العتيقي، وجعل ما قدمه في ميزان حسناته، وألهم أهله وذويه الصبر، ووفق الأجيال القادمة للسير على خطاه.






