الرئيسية مقالات “مواد تعرف متى تختفي: كيمياء ذكية لعالم أنظف”

“مواد تعرف متى تختفي: كيمياء ذكية لعالم أنظف”

70
0

 

بقلم الدكتور / مازن إسماعيل محمد :

مكة المكرمة:-

في عالم تتسارع فيه الحاجة إلى حلول بيئية ذكية ومستدامة، يبرز توجه علمي جديد يحمل وعودًا كبيرة: تصميم مواد قابلة للتحلل باستخدام التجمع الذاتي الديناميكي. هذا المفهوم المتقدم يجمع بين دقة الكيمياء الحيوية ومرونة المواد الذكية، ليمنحنا موادًا تتكون وتتفكك تلقائيًا، وفقًا لظروف بيئية أو كيميائية محددة.

في جوهر هذا الابتكار، تعتمد المواد على مبدأ التجمع الذاتي، حيث تتآلف الجزيئات الصغيرة لتشكيل بنى أكبر دون تدخل خارجي مباشر. لكن ما يجعل هذه العملية “ديناميكية” هو أنها لا تنتج بنى ثابتة، بل هياكل مؤقتة تتفكك تلقائيًا عند زوال المحفز أو الوقود الكيميائي الذي حفّز تكوينها. هذا السلوك يشبه إلى حد بعيد ما يحدث في الكائنات الحية، حيث تتشكل البنى البيولوجية وتتحلل باستمرار استجابةً لاحتياجات الجسم.

لتطبيق هذا المفهوم في تصميم مواد قابلة للتحلل، يستخدم العلماء وقودًا كيميائيًا مؤقتًا مثل ATP أو وقود اصطناعي متعدد الحالات. هذا الوقود يفعّل عملية التجمع الذاتي لفترة محدودة، وبعد نفاده، تعود الجزيئات إلى حالتها الأصلية، مما يؤدي إلى تفكك المادة تلقائيًا دون الحاجة إلى تدخل خارجي. كما تُستخدم بوليمرات ذكية تحتوي على روابط قابلة للتحلل، مثل الروابط الهيدرازونية أو الإستيرية، والتي تتفكك بفعل الحرارة أو التغير في درجة الحموضة أو بفعل إنزيمات طبيعية.

هذه المواد لا تُصمم فقط لتكون صديقة للبيئة، بل أيضًا لتؤدي وظائف محددة ثم تختفي. في المجال الطبي، يمكن استخدامها في أنظمة توصيل الأدوية التي تتحلل بعد إطلاق الجرعة المطلوبة، أو في هلاميات مائية ذكية تُستخدم في الجراحة وتتحلل بعد التئام الجرح. أما في البيئة، فيمكن استخدامها في مواد تغليف تتحلل بعد فترة قصيرة، مما يقلل من التلوث البلاستيكي. حتى في الإلكترونيات، يجري تطوير دوائر إلكترونية قابلة للتحلل تُستخدم لمرة واحدة ثم تختفي دون أن تخلّف نفايات إلكترونية.

إن هذا التوجه لا يمثل مجرد تقدم تقني، بل يعكس تحولًا في فلسفة التصميم نفسها: من السعي نحو الديمومة إلى تبني الفناء كجزء من دورة حياة المادة. في عالم يئن تحت وطأة النفايات، قد تكون المواد التي تعرف متى تختفي هي بالضبط ما نحتاجه.