من الناس من يبحث عن الحقيقة والمعتقد الصحيح متجردين من أية مؤثرات خارجية ولو كان آباؤهم كما في قول الله عز وجل على لسان سيدنا ابراهيم عليه السلام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [الأنعام – ٧٤] إلى قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام – ٧٩]
غير أنه غالباً ما تشكل العقائد والمعتقدات خطاً أحمر لدى كثير من البشر لإيمانهم الشديد بما يعتقدون، وغالباً ما يكون هذا مما وجدوا عليه آبائهم كما في قوله تعالى: بَلْ قَالُوٓاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٍۢ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّهْتَدُونَ [الزخرف – ٢٢].
ومما لا شك فيه أن من يريد الخير للناس يحب لهم الهداية فيسعى لدعوتهم لما يعتقد بأنه الصح والصواب وذلك استجابةً لأمر الله ورسوله ﷺ، ولكن الدعوة وقبولها لهما شروط، نذكر منها:
أسلوب الدعوة
يجب أن تكون الدعوة بالتي هي أحسن، والهدف والغاية إرشاد الناس لما فيه خيرهم وصلاح دينهم ودنياهم وأخراهم، من غير إلحاح فليس على الدعاي هداية الناس وإنما البلاغ والهداية بيد الله، ثم لا بد من اختيار الوسيلة المناسبة والتحلي بالحكمة والصبر وسعة الصدر.
اختيار المفتاح المناسب
أذكر أنني ذات مرة طمعت في إسلام حاضنة الأطفال التي كنت أضع أطفالي عندها إبان فترة ابتعاثي للدراسة في أمريكا، وذلك لِما رأيت فيها من طيبة وحسن خلق، كان اسمها “سو رندن” وكانت امرأة نشيطة تعتني بنفسها وبيتها وتعتاش على حضانة الأطفال بالرغم من كبر سنها فقد كانت آن ذاك في الـ ٧٣ من العمر بينما كنت أنا في بداية العشرينات من عمري.
المهم أنه ما إن بادرتها بالحديث حول الإسلام حتى قاطعتني بكل ثقة وحزم واحترام قائلةً: أنا مقتنعة بديني واحترم كل الأديان، استوقفتني عبارتها فقد وجب علي احترامها واحترام معتقدها وإن كنت لا أقره ولا أؤمن بصحته، ولقد اشعرتني عبارتها بعجزي عن اقتحام اسوار تفكيرها، وما ذلك إلا لأني لم أجد المفتاح المناسب أو لم أحسن استخدامه، فلكل قلب وعقل وفكر مفتاح يناسبه، فلا تحاول فتحه ما لم يتأكد لك أو يغلب على ظنك أنك تمتلك المفتاح المناسب لفتحه، فقد يوصد الباب في وجهك بشكل نهائي بمجرد فشلك من المحاولة الأولى.
وكم من قصة دعوية نجحت في هداية الكثير من الناس بتوفيق من الله ثم معرفة الداعي لمفاتيح قلوب من يدعوهم، ولا شك أن القدوة الحسنة والمثال الطيب واحترام الناس وعقولهم ومعتقداتهم وعدم التقليل من شأنهم من أقوى المفاتيح إلى قلوبهم، وصدق الله العظيم القائل في محكم التنزيل: ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل – ١٢٥] .
ومن الدعاة الذين تعرفت عليهم أحد الأمريكان السود الذين دخلوا في الإسلام فحسن إسلامهم وأصبحوا دعاة متمكنين في الدعوة لدين الله، وهو يعمل في التدريس بإحدى الجامعات بالسعودية، ويرتدي الزي السعودي كاملاً من العقال وحتى النعال المعروفة بالزبيرية، و شعاره في الدعوة هو البحث عن المفتاح المناسب لكل حالة.
التجرد من الهوى والاتباع الأعمى
ذات مرة كان صاحبنا الداعية الأمريكي مدعواً لحضور ملتقى في فندق مطار الظهران القديم، وعند ذهابه هناك وجد في الاستقبال رجل أمريكي من العرق الأبيض وقد كان قمة في الأخلاق وحسن الاستقبال مما دعا صاحبنا إلى أن يطمع في إسلامه فلما أراد الدخول بالأسلوب الدعوي المباشر، رد عليه الرجل بكل أدب وحزم مثلما ردت علي مربية الأطفال، موضحاً قناعته التامة بمعتقده مع احترام الأديان الأخرى، وهنا عرف صاحبنا مفتاح الرجل وأدرك أن مفتاحة قريب جداً فتوقف صاحبنا ليُغير أسلوبه بما يتناسب مع المفتاح المناسب، ورد على الرجل بقوله: لا أريد أن أقنعك بديني ولكن لكونك رجل مثقف أحببت أن أهديك بعض الكتيبات للإطلاع على ديننا وثقافتنا، فرحب الرجل بذلك وأخذ الكتب التي أعطاه إياها صاحبنا.
يقول صاحبنا: بعد بضعة أشهر ذهبت لألقي محاضرةً في أحد المخيمات الدعوية لأفاجأ برجل يلبس اللباس الأفغاني يقوم إلي ويحضنني، ولما لاحظ أنني لم أعرفه أخبرني بأنه ذلك الرجل الذي كان في الاستقبال بالملتقى الذي أقيم في فندق مطار الظهران القديم، وهكذا كان لاستخدام المفتاح المناسب بعد توفيق الله خير الأثر.
ونستخلص من هذه القصة عِبرتين، الأولى أهمية البحث عن المفتاح المناسب لكل شخص، والثانية أهمية التجرد، فالرجل لو لم يكن متجرداً وهو يقرأ تلك الكتيبات، لما هداه الله إلا أن يشاء هدايته بما هو أعلم به.
البحث عن الحقيقة بنية صادقة
كذلك كما في قول الله تعالى: ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام – ٨٨] ، فإن الله إذا علم من العبد صدق النية في معرفة الحق واجتناب الباطل فإنه يدله على ذلك ويسخر ويسهل له الأسباب، ومن ذلك هذه القصة العجيبة التي كنت شاهداً عليها، إذ دعاني أحد الزملاء لحضور وجبة عشاء على شرف أحد الرجال الهندوس الباحثين عن دين الحق، حيث جاء به الله لنلتقي به ويعلن إسلامه.
بدأ الرجل روايته بقوله: نشأت هندوسياً ولكن لم أكن على قناعة بالمعتقدات الهندوسية، كما أنني كنت معجباً بالعادات الإسلامية حتى أنني علَّمت أبنائي في المدارس السعودية باللغة العربية حتى أنهوا المرحلة الثانوية قبل أن يعودوا إلى بلادهم الهند لاستكمال دراستهم الجامعية، ويقول: لم أُسلم ولم أفكر في التحول إلى دين الإسلام على الرغم من أنني أمضيت من عمري قرابة ١٨ عاماً في السعودية بالإضافة إلى عامين آخرين في إحدى الدول الخليجية قبل أن أقفل عائداً بشكل نهائي إلى الهند وقد عقدت النية على أن لا أعود مرة أخرى للعمل في الخارج.
كان هذا هو مراد الرجل، ولكن كان لله مراداً آخر، ففي أحد الأيام كان الرجل جالساً في بيته بالهند وبيده حبة موز يقوم بإطعامها لابنته الصغيرة، وبعد أن انتهت ابنته من أكل الموزة أخذ الرجل يبحث عن منديل أو ورقة ليلف بها قشرة الموز، فلم يجد غير صفحة من صحيفة فَلفَ القشرة بها ورماها في سلة المهملات، ومن ثم توجه خارجاً من البيت.
أثناء وجود الرجل خارج المنزل ورد اتصال على التليفون من شخص يريد التحدث إليه، ولما لم يكن موجوداً في البيت قامت زوجته بالبحث عن ورقة لتسجيل رقم المتصل فلم تجد غير تلك الورقة من الصحيفة التي لف بها قشرة الموز فاستخرجتْها من سلة المهملات وكتبت الرقم عليها.
بعد أن عاد الرجل إلى بيته أخبرته زوجته بما حدث، فعاود الاتصال بالشخص المتصل، وبينما هما يتحدثان وإذ بعينه تقع على إعلان في الصحيفة عن وظيفة في السعودية، فيا سبحان الله لقد كان هذا الإعلان عن هذه الوظيفة هو الذي قاده للعودة للسعودية لينطق الشهادتين ويدخل في دين الله، فيا ترى من الذي خطط لكل هذا ؟ !!! ، إنها حكمة الله الذي يعلم النيات وما في الصدور.