بقلم المهندس ابراهيم آل كلثم الصيعري
١٠/١٣/ ٢٠٢٤ م
تتباين معتقدات الأفراد، سواء كانت دينية أو مذهبية، لأسباب موضوعية متعددة. من بين هذه الأسباب البيئة التي ينشأ فيها الفرد، ومستوى تفكيره، بالإضافة إلى المصالح والمكاسب الشخصية المرتبطة بذلك. كما تلعب التبعية الفكرية وعدم استقلال القرار، سواء كان ذلك بشكل قسري أو غير إرادي، دورًا في تشكيل هذه المعتقدات. موضوع بحثنا اليوم يدور حول الدين والمذهب: هل يُعتبران عقيدة أم هوية، وهل هما قدر أم اختيار.
لا شك أن هناك عوامل تؤثر في حياة الإنسان وتلعب دورًا كبيرًا في تشكيل شخصيته وقناعاته، ومن بين هذه العوامل ما يلي:
بيئة النشأة والتعليم
بدايةً يولد الإنسان على الفطرة السليمة التي فطره الله عليها، كما ورد في حديث النبي ﷺ: “ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أو يُنَصِّرَانِهِ أو يُمَجِّسَانِهِ، مثلما تُنتَج البهيمة السليمة. هل تجدون فيها من العيوب؟” [صحيح البخاري، رقم ١٣٥٨]. وأيضًا، يقول الله تعالى: “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” [الروم: ٣٠].
ذكر ابن الأثير في كتابه “النهاية”: “ومعنى الحديث: أن المولود يولد على نوع من الجبلة، وهي فطرة الله تعالى، وكونه مُتهيئا لقبول الحق طبعاً وطوعا، لو خلته شياطين الإنس والجن وما يختار لم يختر غيرها، فضرب لذلك الجمعاء والجدعاء مثلا، يعني أن البهيمة تولد مجتمعة الخلق، سوية الأطراف، سليمة من الجدع، لولا تعرض الناس إليها لبقيت كما ولدت سليمة”.
وقال ابن القيم في كتاب شفاء العليل: “ومما ينبغي أن يعلم أنه إذا قيل أنه ولد على الفطرة، أو على الإسلام، أو على هذه الملة، أو خلق حنيفا، فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده، فإن الله يقول: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:٧٨] ، ولكن فطرته موجبة، مقتضية لدين الإسلام لقربه، ومحبته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه، ومحبته، وإخلاص الدين له، وموجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئا بعد شيء، بحسب كمال الفطرة، إذا سلمت من المَعَارِض”.
كل إنسان يُولد على فطرته السليمة، حيث يحب خالقه ويقر له بالربوبية والعبودية. لكن هذه الفطرة قد تتغير بسبب تأثيرات والديه، سواء كان ذلك من خلال التهويد أو التنصير، مما يؤدي إلى انحرافه عن الفطرة التي وُلد عليها. ومع ذلك، فإن قبول الفطرة يبقى كما هو، فإذا تغير هذا القبول وزال، لم تقم عليه الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب. لذا، من يظل بعيدًا عن هذه المؤثرات، فإنه يبقى متمسكًا بفطرته، تمامًا كما يُولد الطفل محبًا لما يتناسب مع جسده من الأغذية والمشروبات التي تغذيه.
المستوى الفكري
مما لا شك فيه أن الناس يختلفون في مستوياتهم الفكرية، فمنهم النابغة ومنهم من لا يفقه، ومنهم من هو بين هذا وذاك. وفي ذلك يقول رسول الله ﷺ: “نَضَّرَ اللهُ امرأً سمِعَ منَّا شيئًا فبلَّغَهُ كما سمِعَهُ ، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى من سامِعٍ” [سنن الترمذي، رقم ٢٦٥٧]. وفي رواية أخرى: “رب حامل فقه ليس بفقيه، وفي لفظ: ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه”.
إن المتأمل لجملة الأحاديث الواردة هنا يجدها تحث على السعي لتبليغ الدين للناس، لما فيه من خير للبشرية وهداية لهم. كما تؤكد الأحاديث على أهمية الوعي والفهم الصحيح لنصوص الدين، والحث على البحث عمن هو أفقه وأوعى وأقدر على الفهم الصحيح.
المصالح الشخصية
إنّ مما يصدّ الناس عن اتباع الدين أو المذهب الحقّ وجود مصالح خاصة لهم في اتباع الباطل. فهناك من تمكن من خداع آخرين وتضليلهم، فصار له أتباع وأصبح يتمتع بالزعامة فيما بينهم. فكان ذلك سبباً كافياً يجعله يتمسك بضلاله على علم منه. ولعلّ قصة فرعون مع موسى من أبلغ ما يصف هذا النوع من موانع اتباع الحق.
وأما الأتباع، فمنهم صاحب الامتيازات الذي يعمل مع زعيمه لنشر الضلال للمحافظة على امتيازاته وهو يعلم. ولعل دور هامان، وزير فرعون، من أبلغ ما يعبر عن هذا الصنف، حيث لا شك أن هامان كان يعلم أن فرعون ليس إلهاً، ومع ذلك كان يتبعه ويعينه على نشر ضلالاته للمحافظة على مكانته عنده.
ومنهم المُكره أو المخدوع الذي يرجع إلى الحق متى ما ظهر له، كما فعل سحرة فرعون. حتى إن تهديده بقتلهم وصلبهم لم يمنعهم من اتباع الحق الذي ظهر لهم، وقدّموا أرواحهم رخيصة في سبيل ذلك، كما في قول الله تعالى على لسان سحرة فرعون بعد أن ظهر لهم الحق: “قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا” [طه: 72].
وكذلك، إن مما يصد الناس عن اتباع الدين أو المذهب الحق الخوف من التعرض لضغوط اجتماعية، يخشى معها خسارة بعض مكتسباته الاجتماعية، أو أن يترتب عليها ضرر ما يصيبه.
التبعية الفكرية
من الناس من لا يُعمل عقله، ولا يستمع للحق إذا أتاه، مكتفيًا باتباع وتقليد غيره، سواءً كان على حق أو باطل. فهم يتبعون أو يقلدون بشكل أعمى من غير أدنى تفكير، مصداقًا لقوله تعالى في سورة الشعراء:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (٦٩) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (٧٠) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (٧١) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣).
وبطبيعة الحال، لن يكون ما بعد الموت كما قبله. ولكن أكثر الناس يجهلون ذلك. فبعد الموت، لن ينفع أحدٌ أحدًا. وقد أخبرنا رب العزة والجلال بما سيكون يوم القيامة من حوار بين من ضلوا عن سبيله. فقال عز من قائل في سورة الأحزاب: “يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (٦٦) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٦٧) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (٦٨)”.
وأسوأ ما يترتب على هذا النوع من التبعية الفكرية هو تحويل المشاعر الدينية إلى مشاعر كراهية بين أتباع الأديان والمذاهب المختلفة. فيحل القتل والاقتتال مكان التحاور والبحث عن الحقيقة بعيداً عن التعصب الأعمى.
قدرٌ أم اختيار
هل هو قدر أم اختيار أن يعتنق الإنسان دينًا أو يتبع مذهبًا؟
في الحقيقة، إن الإنسان غالبًا ما يكون في مقتبل عمره تابعًا لأهله وبيئته. حتى إذا نضج عقله وبدأ يستقل بفكره، فإنه حينئذٍ يختار ما بين طريقين: إما أن يلغي عقله ويبقى تابعًا لما وجد عليه أهله وقومه، أو أن يعمل فكره ليقيّم ويحلل ليميز الصواب من الخطأ.
ففي البداية، تكون عقيدة الإنسان تبعًا للوالدين، وفي النهاية يجب أن تكون اعتقادًا بالاختيار، اتباعًا للدليل وتفكرًا في الآيات الكونية بعيدًا عن الهوى والمصالح الشخصية.
عقيدة أم هويَّة
من الناس من لم يعد معتقده يُعبر عن ارتباطه بمعبوده ارتباطًا حقيقيًا، وإن ادعى ذلك. فقد لا تجده مقيمًا لشعائر ما يعتقد، وغير ملتزم بأوامره أو مجتنبًا لنواهيه. ولا يقبل باتباع الحق إن ظهر له في غير ما يتبع. فالدين والمذهب لا يعنيان بالنسبة له أكثر من هوية يتعصب لها لارتباطها بانتمائه الوطني أو العرقي.