الرئيسية محلية حين يُربّي الأنبياء… ويضلّ الأبناء

حين يُربّي الأنبياء… ويضلّ الأبناء

44
0

 

✍🏻: بقلم/ الإعلامي: خضران الزهراني

لا تلم، لا تسخر، لا تُقارن، لا تُشفق من طرف خفي، ولا تُبادر بالحكم القاسي إن رأيت أبًا يعاني من تصرفات أبنائه، أو أمًا كسرت قلبها خيارات أبنائها، أو بيتًا امتلأ فيه الحزن رغم التربية والنصح والتوجيه والاحتواء.

الهداية ليست وصفة تُحكم مكوناتها، ولا نتيجة حتمية للتربية، ولا ثمرة مضمونة تخرج من شجرة اجتهدنا في سقايتها. الهداية ليست سلعة نشتريها، ولا صكًا نُورثه، ولا مكافأة فورية على حسن السلوك الأبوي.

الهداية… نفحة من الله، شعاع يُلقى في قلب العبد متى شاء الله، كيفما شاء، ولمن يشاء.

لذلك لا تظن أن صلاح أبنائك هو علامة تفوّقك كأب أو أم… ولا تظن أن ضلال أبنائك هو دليل على تقصيرك. اجتهد نعم، علّم، وجّه، صلِّ، ادعُ، ولكن لا تجعل نتيجة الابن معيارًا وحيدًا لنجاحك أو فشلك.

تأمّل جيدًا… فإن التاريخ لم يُورِد لنا قصصًا عابرة، بل رسائل خالدة من فوق سبع سموات، عبر حياة الأنبياء، تحمل إلينا الحقيقة المجردة: أن التربية بذلٌ، وليست نتيجة.

آدم عليه السلام، من خلقه الله بيديه، وأسجد له ملائكته، ربّى أبناءه في بيت طاهر، لا معاصي فيه ولا انحراف، ومع ذلك، قُتل أحد أبنائه على يد أخيه… فهل كان ذلك تقصيرًا منه؟ أم أنه القدر؟ أم أن في ذلك إشارة منذ بداية الخليقة أن البشر لن يكونوا سواء؟

نوح عليه السلام، ألف سنة إلا خمسين، لم يترك بابًا إلا طرقه، ولم يترك أسلوبًا إلا استخدمه، دعا قومه في الليل والنهار، سرا وجهارا، خافتًا وصوتًا عاليًا… لكن يوم أن جاء الطوفان، اختار ابنه الكفر، واختار الابتعاد، فكان من المغرقين.

لم تنفعه دموع أبيه، ولا نبوّته، ولا حرصه. قال الله:

“إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ”

العمل هو المعيار، لا النسب، لا التربية، لا الدم.

يعقوب عليه السلام، نبي الله، وابن نبي الله، وأبٌ لاثني عشر ولدًا… ومع ذلك، رأى بعضهم يتآمر على أخيهم، يغارون، يكذبون، يُلقونه في البئر، يرجفون، يبررون… وتفطر قلب يعقوب حتى ابيضّت عيناه من الحزن.

أتراه قصّر؟

كلا… لكنه كان أبًا اختُبر، كما نُختبر نحن، وكان قلبه الصادق لا يكفي لصناعة قلوبٍ صادقة دون أن يشاء الله.

يوسف عليه السلام، نفسه، من تربّى في بيت النبوّة، وذاق مرارة الإخوة، سُجن ظلمًا، وعُرض عليه الفتنة فهرب منها، لكنه شهد في قصته أن الطريق إلى الهداية مليء بالابتلاءات، وقد تكون الغواية أقرب إليك من أي وقت… لو لم يرحمك الله.

ومحمد صلى الله عليه وسلم، خير من وطئ الثرى، ما قرأ كتابًا ولا تعلّم عند بشر، نشأ يتيمًا، تنقّل بين أيدي أناس لا يعرفون الوحي ولا الهداية… لكن الله ربّاه، فأحسن تربيته، وقال له:

“وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى”

فلا البيئة ضمنت خلقه، ولا المحيط شكّل صلاحه… بل الله.

فهل بعد هؤلاء حجّة لأحد؟

إذا رأيت ابنك على صلاح، فاحمد الله، وابكِ من شكر النعمة، وادعُ له بالثبات.

ولا تفتخر كثيرًا بنفسك، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن.

وإذا رأيت ابنك حائرًا، ضائعًا، تائهًا، فلا تسقط في حفرة جلد الذات، ولا تهدم سنينك بتهمة الفشل… بل قل: يا رب، لا تكلني إلى نفسي ولا إلى ابني، وأنت أرحم الراحمين.

“إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ” [القصص: 56]

هذه الآية ليست فقط عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بل عن كل قلبٍ مكسور على هداية أحد أحبّته… الله وحده هو الهادي.

فلا تُقارن ابنك بأبناء الناس، ولا تُقارن نفسك بالآخرين… فربّما هناك أمٌ تُصلّي الليل كله لأجل هداية ولدها، وولدها لا يزال يرفض الباب. وربما هناك أبٌ يُرهق نفسه بالنصح، ودموعه لا تنقطع، ومع ذلك، لا يرى بصيص التغيير.

ولربما أنت كنت يومًا من هؤلاء الأبناء، فأبكاك والداك، وها أنت اليوم تدعو لهم بالجنة.

أعطِ أبناءك الحب، أعطِهم العلم، أعطِهم الموعظة، أعطِهم الوقت… ثم سلّم الأمر لله.

الهداية لا تُقاس بعدد المحاضرات، ولا بسرعة الالتزام، ولا بكثرة “المنع”، بل بصدق القلوب، وصفاء النوايا، وتوقيت الله.

——————————————————

خاتمة وعظية وتوعوية:

——————————————————

أيها الآباء والأمهات…

يا من تسهرون على راحة أبنائكم، وتغرسون فيهم الخير، وتزرعون في قلوبهم القيم… اعلموا أن الله لا يضيع أجركم، وأن كل كلمة قلتموها، وكل دمعة سالت من أجل صلاحهم، وكل سجدة خاشعة دعوتم بها، محفوظة عند الله، لا تضيع ولا تُنسى.

لكن أيضًا… تذكّروا أنكم مكلّفون بالبذل، لا بالنتيجة. وأن دوركم هو الاجتهاد، لا التحكم بمآلات القلوب. فالله وحده هو مُقلّبها، وهو الهادي لمن يشاء.

 

ازرعوا التربية بالحب، لا بالخوف…

ربّوا أبناءكم على أن الدين راحة، لا عبء… أن الله قريب، لا رقيب مخيف… أن الخطأ وارد، لكن التوبة مفتوحة… علّموهم كيف يحبّون الله، لا كيف يخافونه فقط… كيف يبكون عند سجادة الصلاة حبًا، لا رعبًا… كيف يشتاقون للجنة، لا يهربون من النار.

 

ويا أيها الأبناء…

اعلموا أنكم لن تجدوا قلوبًا أصدق من قلوب آبائكم وأمهاتكم. كل ما يقولونه لكم – وإن بدا قاسيًا – هو من خوفهم عليكم. وكل توجيه – وإن كان مزعجًا – هو من حرصهم، لا تسلطهم.

لا تجعلوا التغيرات الزائفة والموجات العابرة تُفقدكم من يحبكم بحق.

إنهضوا بهم، لا عليهم… وإن أخطأوا يومًا في طريقتهم، تذكّروا أنهم لا يتقنون كل شيء، فهم بشر مثلكم… لكنهم ما أخطأوا النية يومًا.

 

لكل بيت يُعاني، لكل قلب يشتكي، لكل أمّ تتعب، ولكل أبّ يصمت…

اعلموا أن الله لا يترك عباده. وأن القلوب وإن ضلّت، فإنها بين أصابع الرحمن.

ما دام فيكم الدعاء… فأنتم على باب الأمل.

وما دمتم تبكون لله، وتربّون بحب، وتنصحون بصبر… فأنتم على الطريق.

وإن طال الانتظار… فإن الله لا يُخلف الميعاد.

 

فاللهم يا هادي القلوب، يا من بيدك الصلاح والهداية… أصلح أبناءنا وبناتنا، واحفظهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، واجعلهم لك كما تحب وترضى. اللهم بارك في كل مربٍ صادق، وأعن كل أبٍ وأمّ على أداء الأمانة، واهدِ كل قلبٍ ضلّ الطريق… واجعل بيوتنا بيوت طاعة وهداية وسعادة.

 

اللهم آمين.