الرئيسية محلية غيابي له صدى… وحضوري له صدى أعظم

غيابي له صدى… وحضوري له صدى أعظم

55
0

 

بقلم: أحمد علي بكري

في خبايا النفس، حيث تتقاطع دروب الكبرياء مع منعطفات الشعور، يتجلّى الإنسان ككيانٍ مستقل، لا يختلف كثيرًا عن كيان وطنٍ يحمل علمه، ويذود عن حدوده.

فكما أن للدول سيادة لا تمسّ، للروح الإنسانية هيبة لا تُستباح، وحدود لا تُتجاوز، وإن لم تُرَ بالعين، فهي محفورة في لبّ الكرامة.

العلاقات بين البشر… ليست إلا انعكاسًا مصغّرًا للعلاقات بين الأمم.

هناك تُعقد الاتفاقيات وتُرسم الحدود على ميزان المصالح، وهنا تُنسج القلوب وتُبنى الروابط على ميزان القيمة والاحترام.

فإمّا أن تكون في عيونهم ثقلًا لا يُستهان به، أو تصبح تفصيلة هامشية في مشهد مزدحم لا يُلتفت إليه.

قال الإمام علي بن أبي طالب: “قيمة كل امرئ ما يُحسنه”.

وليس المقصود الإتقان فحسب، بل ما يظهره من حكمة، وثبات، وهيبة في المواقف.

فأنت من يُشكّل صورته في أعين الناس، إن رفعت نفسك رفعوك، وإن هنت عليها هان عليك الجميع.

من أراد لمقامه أن يعلو، فليجعل من حضوره وقارًا، ومن غيابه أثرًا.

لا تكن من أولئك الذين إذا حضروا لم يُحسّ بهم، وإذا غابوا لم يُسأل عنهم.

كن كالفجر حين يتأخر، ينتبه الجميع إلى غيابه، ويتطلعون بشوق إلى حضوره.

قال نيتشه: “أعظم ما يمكن أن يفعله الإنسان هو أن يكون هو نفسه”.

وذلك لا يكون إلا حين يعرف وزنه، ويمنح ذاته الاحترام قبل أن يطلبه من الآخرين.

إيّاك أن تجعل كرامتك مجالًا للعب، أو أن تسهّل الاقتراب من جراحك.

إن رخصت نفسك، فلن يراك الآخرون إلا أرخص مما تصورت.

وإن تكرّرت في محضرهم بلا وزن، صرت في أعينهم كظلٍ عابر لا يُحتفظ بصورته.

أعلِمهم أن للغياب نبضًا، وأن للصمت هيبة، وأن العودة لا تُمنح لكل من يخطئ فيك ثم يعود كأن شيئًا لم يكن.

لا تكن غيابًا يُستبدل، بل فراغًا لا يُملأ.

ولا تكن حضورًا يعتادونه، بل نورًا إن أشرق غيّر الملامح، وإن غاب أطفأها.

وقد قال ابن حزم الأندلسي:

“من جُرّب عليه حُسنُ الرجوع بعد الجفاء، صار هوانه عند الناس عظيمًا”.

فلا تُعد إلا وأنت كامل، مهيب، حاضر بثقل يليق بك.

العلاقات الحقيقية، كالجسور المعلّقة، لا تبنى على المجاملة، بل على ثقة، ومهابة، وميزان عدل.

وكما أن الدولة القوية تُرهب بصلابتها، لا بتوسلاتها، كذلك الإنسان يُحترم بمقدار ما يصون نفسه من الذوبان في رغبات الآخرين.

قال مونتسكيو:

“الاحترام لا يُطلب، بل يُنتزع”.

ولن تُنتزعه إلا إن جعلت من نفسك ندًا لا تابعًا، وخطًا لا هامشًا.

لا تهب حضورك من لا يقدّره، ولا تمنح غيابك لمن لا يحسّه.

كن ذاتك، واصنع حولك هالة لا تُشترى، وحدودًا لا تُداس، ومكانة لا تُهدى.

فمن لا يشعر بثقلك حين ترحل، لا يستحق نورك حين تعود.

واجعل غيابك صدى… لكن اجعل من حضورك صدى أعظم.

صدى يتردد في قلوبهم لا في آذانهم،

صدى لا يُنسى، ولا يُستبدل، ولا يُتجاهل.