الرئيسية مقالات الظروف لا تجبر أحداً على الابتعاد

الظروف لا تجبر أحداً على الابتعاد

52
0

بقلم : احمد علي بكري

استوقفتني هذه المقولة:
“الظروف لا تجبر أحداً على الابتعاد عنك، هناك شيء اسمه الرغبة فيك قد انتهت، الظروف أحيانًا مجرد عذر مرتبط بالهروب، فلا تعاتب من تغير عليك وأراد الرحيل.”

تعثرتُ في عمق كلماتها فكأنها مرايا صافية كشعاع خافت في ظلمة الليل، تعكس وجوه الذكريات وأوجاع الفقد. فلطالما نبذُتُ الظروف أسباباً وآمالاً تلوح كزهرات يقذفها القدر أمام خطاي، متناسياً أن الحقيقة أبسط من ذلك: ربما انتهت الرغبة في البقاء، وذاب شمع الوداع في مائدة العهد. نَهِمتُ من كأس الحب حتى آخر قطرةٍ ووجدت نفسي فجأةً واقفاً وحيدًا على شاطئٍ قاحل، غير أنني لم أستطع لوم الرياح التي حملت السفن بعيدًا، فالقلوب غامرةُ العواطف أحرارٌ في دُروبها لا تُجبرها الظروف على الغياب.
تسربت كلماتها إلى أعماقي ، فتسلّلت إلى أروقة الفؤاد حيث قابعةٌ أحلامٌ اسطورية عن الحب والصداقة والوفاء. كم ظننتُ أن قلبي سفينةٌ تقاوم العواصف، ولم أخطر ببالي أن أشرعة الأهل والخلان تُسدل حين يبرد لها الهواء. لم تكن الظروف سوى ستائرٍ رقيقةٍ يتسلل من بينها الضوء لأوّل مرةٍ، فتكشف أن سبب الرحيل ليس موجة البحر، بل خديعة الرغبة التي امتدت حياتها إلى حين.
في عمق لحظات الليل الهاديء، أُعيد بناء ذكرياتٍ تناثرت أصداؤها بين قوافي الغياب وصدى الانكسار. لقد أحببتهم كما تعشق الأرض المطر بعد طول جفاف، بكل جوارحي لم اعتمد في حبهم على وهم أو طموحات زائلة، لكن كما تموت الزهور حين يرحل الدفء، ترحل الأحلام عندما تخبو الرغبات. أرى اليوم تلك الشمس تغرب في داخلي، وقد أغرقتُها بآهاتٍ لم تُسمع وأسرارٍ لم يقرؤها غير الضجيج. ربما تحاول نفسي البحث عن سبب لذلك الرحيل، فتنطق: ليس الزمان الذي يكرهني، بل قلبي الذي أبعدته رغمةً عن مسارها.
في يومٍ ما، كان الحب مُنجّدًا على فراش الأيام، يعيد للروح بريقها حين تلتقي الأيدي، ويترنم بألحانٍ لا تفنى. لكن الحبّ إن لم يختزل نبضه في وجدانٍ صادقٍ، فقد يذوب في حرِّ الفرقة كما يذوب الثلج تحت شمسٍ غادرة. عاشقٌ كنتُ، أكتب إلى من أحبّ بمداد الصدق، فأجد كتاباتي تهيم في سهوب النسيان. ثم يجيء الصمت الطويل ليخبرني أن الزهور ما إن يُسقَط عنها الشوق، تنثني وتجفّ دون أن تئن.
أما الصداقة فكانت لدي مرآةً صافية ترى وجهي في أبهى صورة، تعانقني حين أضعف وأقبل يدي حين أتردّد. وَلَيتَ الأيام أن تبقى صافيةً كمرآةٍ لا تكذب، لكن الصدق في النفوس أحيانًا يتحوّل إلى هروبٍ مبطّنٍ في ثوب الأعذار. حين ينسى الصديق موعد قلبي، ويغفو على وسادة الوعود، يبدأ دفء اللقاء يبرد ويتلاشَى كفجرٍ لم يكن على الموعد.
الصداقةُ عندي كانت نبعًا عذبًا نقيًا، فلم أظن أن أحداً يستطيع أن يطفئ حفرة عميقة أنتجها الغياب المفاجئ. ما أصعب أن تصحو ذات الصباح لتجد من كنت تشاركه دفء اللقاء تحت شمس الذكريات غارقاً في البحر وحدك! كم هي جبال الصمت قاسية حين تجثم فوق شرفة اللقاء، وتخبئ بين حجارتها صوت أنين مشتاق. لقد أخبرتني الأيّام مرةً أن الصديق الحقيقي يبقى كظلٍ راسخٍ في وقت الضحك والشدة، لكن للأوقات أحكامها، فليس كل من يقول أحبك يملك الرغبة للثبات إلى الأبد. حين تُدفعْ يد الصديق من يدي، يظل الصوت الأخير لرغبة الفراق يهمس في أذني: لقد انتهى الأمر. تقول لي غيوم السماء الملبدة أن لا أعاتب من غادر الطريق، فالطريق نفسه لا يجبر أحدًا على أن يسير فيه معي. فقلوب البشر دارجٌ قائمٌ على النبضات، والحبُّ والصداقةُ إنْ ماتت رغبتهما فلا تستند على الأعذار المنمقة. أحيانًا، يكون الهروب أيسر من مواجهة الحقيقة؛ وأحيانًا، تذوب الحكايا في مذيب الزمان دون عودة. لذا، آثرتُ أن أضع يدي على صدري مثلاً عندما تنتهي الكتابة، فحين تتوقف الحروف لا أشعر بالندم على من رحل.
وفي الفقد تتجسّد الحقيقة الأكبر: أنما المرء يُحْرَمُ ذاك الذي أفرط في رغبته، لا الذي أُلزمَه ظروف البعد. ألم الفقد طبولٌ تُقرع في صدر الأيام، تقيم مراسمها دون استئذان، لتجعل القلب صرحًا مهجورًا تغزوه الذكريات كالأشباح التي لا تترك روحًا تبيت هانئة. لستُ أعاتب من غادر بغياب الشوق، لأنّه أبعد من أن يُحتسب بالسبب؛ بل عاتبت نفسي على أن أحبت بعمى الإخلاص دون أن أرى متى تُطفئ الشوق ظمأه.
تتجلّى البساطة في الاعتراف الصادق: لا تُجبرنا الظروف على البقاء إن انتهت الرغبة فينا، ولا يُصدّق من يظن أن غياب الانسجام يُعوضه الزمن. فكما لا يُثمر نخيلٌ بلا جذور، لا تدوم علاقةٌ بلا نبضٍ ينبعث من القلوب. وفي لحظة الصمت التي تعقب رحيل الأحبة، يكشف لنا القلب عن أضعاف قوته؛ فمَن تذكّر حبه يومًا بصدقٍ، يعود إلى ذكرى الود، فيفيض دموعًا لا يعلمها سواه.
وعلى هامش الألم، ينبثق درسٌ صغيرٌ: لا نحمل الرحيل فوق أكتافنا كذنبٍ، ولا ندفن الودّ في سرداب العتاب. فالحياة أكثر اتساعًا من قلوبٍ خذلتنا، والأيام تحمل بين طياتها لقاءاتٍ جديدة، وإن طال الأمد. نجمع حروف الأمل من أطلال الفقد، ونغرسها في تربة الروح لتُثمر بالألفة من جديد. هكذا يكون الحب والصداقة والفقد معًا: سيمفونيةً حزينة تُنهي مقطوعتها بمقامٍ جديدٍ، ينتظر من يعزف أنغامه على أوتار القلوب المنكسرة.
نهاية الطريق لم تكن تلوم أحداً بعد الآن. فالظروف لم تكن يوماً سوى شبحٍ لا يسكن المواجع، بل الرغبةُ المنتهية فينا هي الجليلة بالعتاب. وها أنا أتقبلُ رحيل الأحبة كما تتقبلُ الشجرة زهرها الذي ذبل، فيصفرُّ عِطرُه في الهواء كالذكرى. ربما يكبر القلب في أحزانه ليحمل قصصاً لا تُنسى، وتحيا روحه مع ضوء شمسٍ جديدةٍ تحمل في طياتها وعد لقاءٍ أبعد على مشارف الأمل.