بقلم : احمد علي بكري
في دوحة الفكر، حيث تتشابك خيوط الزمن بين الماضي والحاضر والمستقبل، تبرز حكمة خالدة: “لا يمكنك التفكير في المستقبل وأنت لم تنجز شيئًا في حاضرك، ولم تستفد من المتراكمات في ماضيك.” إنها ليست مجرد جملة عابرة، بل مرآة تعكس أزمة الإنسان المعاصر، التائه بين أمسه المجهول وغده المؤجل، وعجزه عن إنارة لحظته الآنية.
الحاضر: ساحة المعركة الحقيقية
قال الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور: “الحياة تُفهم إلى الوراء، لكنها تُعاش إلى الأمام.”، وهي مقولة تضع الحاضر في بؤرة المعنى. فالحاضر ليس مجرد برهة عابرة بين ماضٍ مضى ومستقبلٍ لم يأتِ، بل هو ساحة المعركة الحقيقية التي تُصاغ فيها القرارات، وتُزرع فيها البذور، وتُشكَّل بها المصائر.
ولكن، ما قيمة الحاضر إذا مرّ بنا كنسمة عابرة دون أثر؟ وما جدوى أن نحلم بمستقبل ناصع إن كنا لا نبني في واقعنا حجارة الأساس؟ إن كثيرين يهربون إلى المستقبل كما يهرب المرء من مرآته، يتوسلون الغد ليعفيهم من مسؤوليات اليوم، متناسين أن المستقبل لا يُولد من العدم، بل ينبت من رحم الحاضر.
الماضي: ذاكرة التجربة وأرشيف الحكمة:
لطالما قال المفكر جورج سانتايانا: “من لا يتذكر الماضي محكوم عليه أن يعيشه من جديد.”، فالماضي ليس عبئًا يُحمل على الظهر، بل كنزٌ من التجارب، مدرسة لا ينضب معينها، ورسائل لا تزال صالحة لفهم الواقع وتوجيه المسير.
لكن في زمن السرعة والنسيان، بات الماضي كأنه عبء يُلقى خلف الظهور. لا يُقرأ التاريخ، ولا تُستلهم العبر، وكأن الإنسان يُصرّ أن يبدأ كل مرة من الصفر، جاهلاً أن تراكم المعرفة هو ما يصنع الحضارة، وأن الأمم التي لا تحترم ذاكرتها، تنسلخ عن جذورها، وتتوه في فراغ هويّاتي.
المستقبل: الوعد المشروط:
المستقبل، هذا المجهول المضيء، لا يتجسد بالأمنيات وحدها، ولا يتحقق بالشرود في أحلام اليقظة. إنه وعدٌ مشروط، لا يُعطى إلا لمن أعد له عُدته، وهيأ له تاريخه وحاضره.
ولعلّ من أبلغ ما قيل في هذا السياق، ما قاله ستيفن كوفي، صاحب كتاب “العادات السبع للناس الأكثر فاعلية”: “أنا لست نتاج ظروفي، أنا نتاج قراراتي.”، فالمستقبل ليس قدَرًا أعمى، بل نتيجة حتمية لاجتهاد اليوم واستيعاب دروس الأمس.
عندما تتفكك حلقات الزمن:
حين يغيب العمل الجاد عن الحاضر، وتُنسى دروس الماضي، يصبح التفكير في المستقبل ضربًا من الترف العقيم. فما الذي يمكن أن يبنيه الإنسان في الغد، إن لم يحمل أدواته اليوم؟ وكيف يُصلح ما سيأتي، إن لم يُجِد قراءة ما مضى؟
إن التفكك بين أزمنة الإنسان يُنتج ذاتًا مشروخة، تعيش بلا رؤية، وتُكرر أخطاءها، وتُراهن على معجزات لا تأتي.
خاتمة: إنارة الطريق بالزمن الثلاثي:
من يرد أن يبني مستقبلًا، عليه أولًا أن يحسن الغرس في حاضره، مستلهمًا من ماضيه، لا خاضعًا له، بل متعلمًا منه، مستنيرًا بحكمته. الزمن ليس خطًا مستقيمًا نمرّ عليه كالرحّالة، بل هو دائرة متداخلة لا تكتمل إلا بالتماسك بين ماضي يُعلّم، وحاضر يُنجز، ومستقبل يُنير.
فلتكن هذه العبارة، التي بدأت بها، نبراسًا نهتدي به في عالم مضطرب:
“لا يمكنك التفكير في المستقبل وأنت لم تنجز شيئًا في حاضرك، ولم تستفد من المتراكمات في ماضيك.”
هي ليست تحذيرًا، بل دعوة لأن نكون أبناء الزمن الثلاثي، نعي من أين أتينا، أين نقف، وإلى أين نريد أن نذهب.