الرئيسية مقالات لا تتعلق بغيمة. مطرها لغيرك

لا تتعلق بغيمة. مطرها لغيرك

191
0

 

بقلم:احمد علي بكري

في أفق النفس تلوح غيمةٌ رقيقة، تنتظر من يعبدها بقلوبٍ معلقةٍ بين طياتها. نراها رمزيةً لأملٍ هشٍّ، أو لشيءٍ نريده؛ ترانيم سعادةٍ أو خلاصٍ. لكن الحكمة تهمس لنا:

«لا تتعلق بغيمة. مطرها لغيرك..! »

في هذه الجملة، دعوةٌ صامتةٌ لعدم توطيد سعادتنا أو خلاصنا على أوهامٍ لا صلب لها. الغيمة تمثل انتظارنا لقدرٍ خارجيٍّ تصنعه الظروف؛ اعتمادٌ على ما لا نستطيع التحكم فيه. وما المطر إلا هبةٌ سماويةٌ تصبّ على أرضٍ أخرى، لا سندَرّ منه إلا القليل. ربما ينسكب على طرقاتٍ بعيدة، أو يتخلل حقولاً لا نزرعها. وهكذا تحوّل تعلقنا بالغيمة إلى وَهْمٍ نطفئ به جذوة إرادتنا الذاتية.

هنا يتجلّى التحرر حين نعي أن سعادتنا منحةً من رب السماء، خلقنا لها أجساماً وأرواحاً. هي ثمار اجتهادنا و دعينا، لنزول مطرٍ عليها من حيث لا ندري. فكلما انتظرنا غيمةً ما، ضاعت منا لحظةٌ نبني فيها قوةً حقيقية؛ لحظةٌ نزرع فيها بذرة الأمل في تربة الإرادة، لا في ضباب الأماني.

وفي هذا المنحى، تهفو النفس إلى الأناة والرؤية الصافية

حين لا نتعلق في غيمة، نسمح لأنفسنا بالوقوف على أرضٍ صلبة، نستشعر رائحة التربة، ونسمع خشخشة الأوراق تحت أقدامنا. نجنب أنفسنا خيبة الأمل حين لا تهطل الأمطار، ونتعلم قدرة الصبر حين يغيب المطر. نكتشف في عمقنا منابع الحكمة التي لا تتأثر بغياب الغيم، بل تنبض بثقةٍ بتجدد الفصول، وبميلاد شمسٍ بعد ليلٍ طويل.

ان تلك الدموع التي ندرفها و ننتظرها من السماء ان تمسح وجناتنا، فتجفّ وتترك أثراً من الأمل، هي في الواقع قوتنا الكامنة. فإذا هطل المطر على غير أرضنا، فلن نستنشق عطراً دافئاً للزيتون، ولا نسمع تغريد العصافير التي تسعد بقطراتٍ تكبر الينابيع. وهنا ندرك أننا لو أودعنا جهودنا في ذواتنا، كنا سنحصد أغصان الرضى والطمأنينة بلا انتظار.

انها دعوةٌ لتنساب مشاعرنا كسيلٍ نابعٍ من القلب، لا كخيطٍ رفيعٍ معلقٍ بغيمةٍ لا نستطيع لمسها. لنجسد أحلامنا بأيدينا؛ لنبنِ بحبٍّ جدران حصوننا الداخلية، ونغرس عليها أقمارَ اليقين. فالهواء يُغنّي حين يمتزج بندى اليقظة، والماء يسري في عروق العزيمة أكثر مما يسبغه المطرُ من الخارج.

لا تتعلقْ في غيمة، مطرها لغيرك. تعلقْ في ذاتك، ففيك مصدرُ الدفءِ والضياءِ. هناك تنبت الأزهار الحقيقية، ويُثمر الصبر أطيب الثمار؛ هناك تُشرق شمس الحياة على قلبٍ قرر ألا يترنّح بريح الانتظار، بل يرقص على إيقاع صنعه بنفسه.