الرئيسية الأدب والشعر المتوكل: حكاية سنبوك وأمواج الذاكرة

المتوكل: حكاية سنبوك وأمواج الذاكرة

65
0

 

يقلم: أحمد علي بكري

منذ أن فتحت عيني على هذه الدنيا، كان البحر جزءًا من كياني، كما لو أنه يسري في عروقي. في بيوت بندر جيزان، وعلى شواطئ تلك المدينة ، تربى اجدادي على صوت الموج، ورائحة الحطب المشتعل في جوف السنابيك، وتلك القصص التي تتردد في ليالي الشتاء عن سنبوكٍ اسمه المتوكل، كان ملكًا لأسرتنا، أسرة البكري.

لم يكن المتوكل مجرد وسيلة للرزق، بل كان فخرًا، ورايةً، وبيتًا عائمًا. كان أبي، وجدي من قبله، يقولون إنه كُتب له أن يكون شاهدًا على زمنٍ لا يُنسى، زمن كانت فيه التجارة مغامرة، والغوص للؤلؤ تحديًا، والإبحار إلى الموانئ علمًا وشجاعة. صُنع المتوكل من خشب البحر، لكن روحه صيغت من إرادة رجالٍ لا يعرفون الخوف ولا التراجع.

وكان لهذا السنبوك اسمٌ آخر، بين البحارة وتناقلته الروايات: “العاصي”. لم يُطلق عليه هذا اللقب عبثًا، بل لأنه كان رمزًا لمقاومة الطغيان العثماني، الذي حاول أن يفرض سطوته وهيمنته على تجارة البحر وعلى أهل السواحل. رفض المتوكل، ومن على متنه رجال البكري وآل حمق العقيلية، أن ينصاعوا لضرائبهم الجائرة، أو أن يخضعوا لفرمانات إسطنبول. كان “العاصي” يتسلل في الليل كما تتسلل روح الحرية، يفرّ من موانئ سيطرت عليها السلطة، ويُبحر إلى المرافئ الحرة، متحديًا أوامر التفتيش والملاحقة، يحمِل بضائعه وكرامة أهله دون أن ينكسر.

كانت رحلات المتوكل تبدأ من بندر جيزان، ذلك الميناء الهادئ الممتد كجناح طائر على شاطئ البحر الأحمر. كتب أحد الرحالة الألمان في القرن التاسع عشر أن جيزان “تجمع بين عذوبة الطمي في تربتها وملوحة البحر في روحها”، كانت مزدحمة بالصيادين وبائعي العسل والسمن والبُن، وكانت السنابيك تتزاحم على رصيفها الخشبي كأنها تنتظر أن تُطلق سراحها في البحر.

ثم يتجه المتوكل إلى الحديدة، حيث السوق ينبض بروائح البن اليمني والمسك والتوابل، وكتب عنها الرحالة الإنجليزي ريتشارد بيرتون واصفًا إياها بأنها “المدينة التي ينام فيها الليل على صوت الأمواج ويصحو على رنين الذهب”، فيها تختلط أصوات المؤذنين بصوت الحمالين الذين ينقلون البضائع من السفن إلى السوق، وأكواخ التجار تفوح منها روائح القرفة والزنجبيل.

في عدن، حيث تمتد الأرصفة الحجرية بين الجبال البركانية، وتغرق الشمس في البحر كقطعة نحاسية، كان المتوكل يرسو لساعات أو أيام. قال عنها الرحالة الفرنسي أرنو إنها “مدينة تشرب الملح كأنها لا تعرف الماء العذب”، لكن تجارها كانوا يعرفون كل الطرق المؤدية إلى إفريقيا والهند، وكانت مقاهيها تعج باللغات واللكنات من شتى أصقاع الأرض.

ثم تتجه الرحلة شمالاً إلى مصوع، جوهرة البحر الأحمر، ببيوتها البيضاء التي تتلألأ تحت شمس لا ترحم. كتب عنها الرحالة جيمس بروس: “مصوع ليست فقط بوابة للحبشة، بل ميناء الأرواح الهائمة والتجار الشجعان”، وفي أسواقها كانت تُباع الجمال، والأقمشة القطنية، والعاج، واللبان الصومالي الذي لا تخطئه الأنوف.

وعندما يبحر المتوكل جنوبًا، يصل إلى زنجبار، الجزيرة التي كتب عنها ثيسجر أنها “عبق من عالمٍ قديم، حيث تختلط روائح القرنفل والياسمين، وتُسمع أنغام الطبول مع همسات التجارة”. كانت أسواق زنجبار تتوهج بالبضائع الإفريقية والهندية والعربية، وساحاتها تعج بالألوان والضجيج، بينما تتهادى السنابيك في مياهها الفيروزية كأنها في رقصة بطيئة.

وأخيرًا، يعبر المتوكل المحيط متجهًا إلى كاليكوت، مدينة البهارات والرائحة التي لا تُنسى. وصفها الرحالة البرتغالي فاسكو دا غاما بأنها “جنة التجار”، وقال عنها الإنجليز في تقاريرهم الاستعمارية إنها “عاصمة العالم للبهارات”، حيث يختلط في أسواقها الفلفل الأسود بالهيل والقرنفل والكركم. هناك، كان تجار السنابيك يقايضون العسل والصمغ اليمني بالحرير والقطن والبخور الهندي، في سوق لا يهدأ ولا ينام.

المتوكل، أو “العاصي”، لم يكن مجرد سنبوك، بل كان كفًّا رُفعت في وجه الظلم، وصوتًا في عمق الموج يقول: لا. بقي حاملًا رسالة أسرتي – أسرة البكري – في الصمود والتجارة والكرامة. وها أنا، بعد هذه السنين، أروي حكايته، ليبقى حاضرًا في ذاكرة البحر، وحيًا في وجدان من لم يعايشه، لكنه سمع صوته في الريح، وقرأ اسمه في موجة لم تهدأ بعد.