الرئيسية مقالات *ثقافة الاختلاف في الأراء والميول لماذا تُفسد العلاقات بيننا؟•*

*ثقافة الاختلاف في الأراء والميول لماذا تُفسد العلاقات بيننا؟•*

106
0

✍🏻 اللواء محمد فريح الحارثي

الاختلاف سُنّة الحياة
ففي عالم يتسم بالتنوع الفكري والثقافي، يظل الاختلاف في الآراء والميول والاتجاهات سمة إنسانية طبيعية، بل ضرورة للحوار والتطور . لكن المفارقة تكمن في أن بعض بنو جلدتنا يعجزون عن تقبّل هذا الاختلاف، فيتحول الموقف الفكري البسيط إلى صراع وجودي، حيث يُصبح الطرف المختلف إلى عدو يجب محاربته أو شيطنة موقفه.
فكيف يمكننا بناء ثقافة تقبل الاختلاف دون أن نُصبح أعداء ؟

وللاجابة على السؤال لابد من توضيح بعض النماذج من ردود الأفعال السلبية تجاه الاختلاف
1. النموذج الثنائي (الأبيض والأسود)
إما أن تكون معي أو ضدّي فهذه العقلية التي لا ترى مساحات رمادية حيث تحوّل الحوار إلى معركة وجودية. مثلاً، في النقاشات الرياضية، قد يرى البعض أن عدم تأييدك الكامل لناديهم يعني بالضرورة أنك من خصومهم.

2. نموذج التآمر والتفسير المُسيّس
وهذا النموذج يفسير الاختلاف على أنه خيانة أو مؤامرة. مثلاً، عندما يعبّر شخص عن حبه لنوع معين من الموسيقى، قد يُتهم بأنه “يتبع الثقافة الغربية” أو “يفقد هويته”، دون اعتبار أن الميول الفنية قد تكون بريئة تماماً.

3. نموذج الاستعلاء الأخلاقي
حيث يُنظر إلى المختلف على أنه “أقل أخلاقاً” أو “غير ناضج”. مثلاً، في النقاشات حول نمط الحياة، قد يُوصم الشخص الذي يفضل العزوبة بأنه “أناني” أو “غير مسؤول”.

4. نموذج التجريم العاطفي
وهو تحويل الاختلاف إلى إهانة شخصية. مثال: “إذا كنت تحبني حقاً، لَما اختلفت معي في هذا الرأي!”، مما يجعل الحوار العقلاني مستحيلاً.

5. نموذج العزل الاجتماعي
إدراج المختلف في “القائمة السوداء” ومقاطعته تماماً، سواء على المستوى الشخصي أو المهني، فقط لأنه لا يتشارك نفس الرأي في قضية معينة.

لماذا يتحول الاختلاف إلى عداء؟
يتحول الاختلاف إلى عداء للأسباب التالية
1. الخوف من التهديد الوجودي:
حيث يشعر بعض الأفراد أن قبول الرأي المختلف يعني تهديداً لهويتهم أو معتقداتهم الأساسية، فيلجأون إلى العدوانية كآلية دفاع.

2. التربية والبيئة:
النشأة في بيئة لا تتقبل التعددية الفكرية أي هي التي تخلق أشخاصاً يعتبرون الرأي المخالف خطأً يجب محوه وحذفه.

3. الأنا الهشّة:
عندما يرتبط تقييم الذات بمدى تأييد الآخرين لآرائنا، يصبح الاختلاف ضربةً للنرجسية (حُب الذات).

4. غياب مهارات الحوار:
عدم تعلّم فنون النقاش البنّاء يجعل الأشخاص عاجزين عن إدارة الخلافات بشكل سلمي.

كيف نتعامل مع الاختلاف بطريقة صحية؟
من خلال الاتي:
1. فصل الرأي عن شخصية صاحبه:
يمكن أن نختلف مع فكرة دون أن نرفض صاحبها.

2. الفضول بدلاً من الإدانة:
بدل افتراض النوايا السيئة، يمكن السؤال “أخبرني المزيد عن سبب اعتقادك هذا”. غالباً ما نكتشف أن الخلاف أقل عمقاً مما نتصور او نُفسر تفسير خاطئ.

3. التسامح مع عدم اليقين:
تقبّل أن بعض القضايا ليس لها إجابة واحدة صحيحة، وأن الحقيقة متعددة الأوجه.

4. بناء ثقافة “الاختلاف المحترم”:
في العمل أو الأسرة، يمكن وضع قواعد للحوار مثل: “لا مقاطعة”، “التركيز على الفكرة لا على الشخص”.

5. النمو عبر الاختلاف:
كما قال جون ستيوارت ميل: “الرأي المخالف ليس شراً يجب قمعه، بل خير يجب استكشافه”. الاختلافات تثري معرفتنا وتصحح أخطاءنا.

خاتمة
الاختلاف ليس نهاية العلاقة، بل اختبارٌ لجودتها
في مجتمع صحي، لا يُقاس التقدُّم بمدى اتفاقنا، بل بمدى قدرتنا على الاختلاف دون تمزيق الروابط الإنسانية. لنُدرك أن العالم لا يتحول إلى اللون الرمادي عندما نختلف، بل بالأحرى يكتسب ألواناً جديدة تثريه جمالاً. كما كتب الشاعر رومين رولان: “الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، إنما يفسدها التعصب والجهل”. فليكن اختلافنا باباً للحكمة والتقارب ، لا للنقمة والتباعد.