الرئيسية مقالات طعنات لا تندمل: حين يكتب القلم ما لا يشطبه السيف

طعنات لا تندمل: حين يكتب القلم ما لا يشطبه السيف

251
0

 

بقلم: أحمد علي بكري

أرسل لي الصديق العزيز عادل البكري المسرحي ذات صباح فكرة تأملية عميقة، قال فيها:

“حين يجتمع القلم والسيف، يتشكل نوعٌ خاص من القوة: مزيج بين الفكر والعمل، يمكن أن يُنظر إلى هذا الاجتماع على أنه توازن بين الحكمة والقوة، حيث يعمل القلم على توجيه السيف ويعطيه غاية، بينما يضمن السيف تنفيذ ما يكتبه القلم على أرض الواقع.”

تأملت عبارته كثيرًا، ودخلت معه في نقاش طويل حمل بين سطوره احترامًا متبادلًا للفكر والعقل، وللدم والتاريخ أيضًا، فنبتت في رأسي فكرة هذا المقال، الذي أطرحه الآن أمامكم.

القلم والسيف: كفتان لميزان واحد

في موازين العدالة والظلم، لا يكون السيف وحده هو الفيصل. فالسيف وإن جرح جسدًا، فإن القلم قد يجرح روحًا. السيف قد يقطع طريقًا، لكن القلم قد يغيّر مصيرًا. فكما أن السيف يجرح ويُعدِل ويظلم، فإن القلم أيضًا يعدل ويظلم، بل إن جراح القلم تبقى أشد وأنكى، لأنها تصيب المعنويات وتخترق الكرامات، وتُخلِّف وراءها ندوبًا لا تُرى، لكنها لا تُنسى.

السيف إن جرح، فإن الدواء قد يداويه، والزمن قد يطويه. أما جراح الكلمة، فإنها تسكن في القلب، وتستقر في الذاكرة، كطعنة معنوية تعيش معك كأنها نبضٌ مكسور لا يتوقف.

القلم يقتل، لكنه لا يُسقط الجسد؛ بل يتركه حيًا يتلوى بين أسطر الكلمات، يموت كل يوم في نظر الناس أو في نظر نفسه، يتوارث أثر الجراح أجيالٌ لم تكن طرفًا فيها. وكم من كلمة ظالمة بقيت عارًا، وكم من كلمة عادلة بقيت مجدًا يتفاخر به الناس.

الحطيئة… حين جعل بيتًا من الشعر درعًا لقبيلة

ولعل أبلغ الشواهد على سلاح القلم في الرفعة والخذلان، ما حدث مع قبيلة بني أنف الناقة، الذين كان يُضرب بهم المثل في الهوان والسخرية، وكان اسمهم يثير الضحك والتقزز في مجالس العرب.

لكن، ما أن تناولهم شاعر السخرية والفخر، الحطيئة — جرول بن أوس، ذلك الذي إن هجا أوجع، وإن مدح رفع — حتى قلب موازين النظرة إليهم، ومجدهم في بيتين أصبحا أيقونة للفخر العربي:

سيري أمام فإن الأكثرين حصىً

والأكرمين إذا ما يُنسبون أبـا

قوم هم الأنف، والأذناب غيرهم

ومن يسوِّي بأنفِ الناقة الذّنبا؟

هنا لم يكن السيف من ردّ عنهم سخرية العرب، بل كان بيت شعر، كلمة واحدة مصوغة بكرامة، قادرة على أن تبني مجدًا تهدمه الجيوش لو حاولت. كان الحطيئة بسيف قلمه أقوى من ألف فارس مدجج، بدّل اسم قبيلة من مذمة إلى مفخرة، ومن ذل إلى شرف.

حين يتحالف الحبر مع الحديد

وفي صفحات التاريخ، لا تغيب مشاهد التلاحم بين القلم والسيف. في أعظم اللحظات، اجتمع الحكيم مع القائد، والمفكر مع المحارب، والمثقف مع صانع القرار. القلم يرسم الرؤية، والسيف يحرس تنفيذها. فالعقل وحده لا يكفي لبناء دولة، والقوة وحدها لا تكفي لحمايتها.

حين اجتمع القلم والسيف في يد العادل، استقامت الأمم. وحين افترقا، أو تسلّط أحدهما دون الآخر، وقع الخراب: فإما سيف متوحش بلا عقل، أو قلم جبان عاجز بلا قوة.

كلمات تُشعل… وكلمات تُصلح

القلم مسؤولية. هو ليس فقط أداة تعبير، بل هو سلطة خفية، قد تفتك أكثر مما يفتك سلاح ناري. كم من مقالة أسقطت نظامًا، وكم من كلمة حرّضت على ثورة، وكم من شائعة موثقة زيفًا أنهت سيرة رجل بريء.

وفي المقابل، كم من قلم نشر وعيًا، وصنع سلمًا، وحمى وطنًا، ورمّم جراحًا كانت تنزف بصمت.

خاتمة: السيف من حبر

علينا أن ندرك أن مسؤولية القلم لا تقل عن مسؤولية السيف، بل قد تفوقها أثرًا وبقاءً. فكم من قلمٍ صنع حضارة، وكم من كلمة هدمت أمة، وكم من حرف أنار طريقًا أو أضلّ سُبلاً.

فلنكن على وعي بأن بين أيدينا “سيفًا من حبر”، قادر على أن يكون عدلًا خالدًا، أو ظلمًا ممتدًا…

إنه القلم، فاحذروا أن تجعلوه يُجيد الطعن أكثر من السيف.