بقلم: أحمد علي بكري
في الليلة الماضية، لم أبحث عن النوم.
بل وجدتُ نفسي أفتّش في الأدراج القديمة عن شيء لا أعرفه.
وقعتُ بالصدفة على دفتر قديم…
دفترٌ كنتُ أستخدمه لتعليمك اللغة الإنجليزية،
بعض الكلمات البسيطة:
cat – door – car – father – mother – sister – brother…
كنا نكتبها، نكرّرها، نضحك على نُطقنا الغريب أحيانًا،
نرسم بجانبها رسومات طفولية لا تشبهنا، لكنها كانت تشبه قلوبنا في ذلك الوقت.
قلبتُ الصفحات،
وارتسمت على شفتي ابتسامة.
ابتسامة رافقها لحظة مبللة بشيء أشبه بالدفء في عيني… لكنه لم يكن عني.
كان عنك.
عن تلك اللحظات التي كنا نظن فيها أن البساطة كافية لخلق الأبد.
لكن بعد تلك الابتسامة،
تسللت دمعة لا إراديًا من عيني…
دمعة لم تكن على الذكرى، بل على من تخلّى عنها.
أغلقتُ الدفتر ببطء،
وبحثتُ عن أي شيء يصرفني عنك،
فتحتُ “يوتيوب”،
ظننت أي أغنية عابرة قد تسلّيني،
لكن… لا أحد يهرب من ظلّك.
ظلّك المتسلل من بقايا الحنين،
من صوتك الذي ما زال يتقافز في زوايا ذاكرتي،
كما تتقافز أضواء النيون على أرضية حلبة رقص مهجورة.
غفلتُ… فغرقتُ.
غرقتُ في أمواج لحنين متوازيين…
أغنيتين:
واحدة عربية،
وأخرى أجنبية،
كأنهما كُتبتا لي… وذُبحتا بي.
أردت أن أهرب منك…
فوجدتك في الأغاني.
شغّلت الموسيقى، لا لأسمع، بل لأُطفئ العتمة بداخلي.
لكن النغمة الأولى لم تُطفئ… بل أشعلت.
“I feel so unsure
As I take your hand and lead you to the dance floor…”
عاد المشهد بكل تفاصيله:
ضحكتك، يدك في يدي، خطواتنا على البلاط،
ظننتُ أننا نرقص،
لكنك كنتَ تتهيأ لتغادر.
“As the music dies, something in your eyes
Calls to mind a silver screen and all its sad goodbyes”
نظرتك كانت النهاية.
لا وداع… لا شرح… لا حتى اكتمال.
فقط انسحابٌ أنيق، مدروس،
كأنك كنت تنتظر انطفاء النغمة الأخيرة لتتلاشى.
وفي تلك اللحظة،
سمعتُ من بعيد صوت كاظم الساهر، يحمل جُرح نزار إليّ:
“اشتقت إليك فعلّمني ألا أشتاق
علّمني كيف أقص جذور هواك من الأعماق
علّمني كيف تموت الدمعة في الأحداق
علّمني كيف يموت الحب… وتنتحر الأشواق”
لكن لا أحد علّمني.
وأنت كنت أكثر من خذل،
أنت من تعمّد أن يزرع في قلبي جرحًا دائم الحضور.
وها أنا الليلة،
أقف في منتصف الذكرى، لا لأرقص… بل لأتذكّر كيف انتهت الرقصة.
“I’m never gonna dance again
Guilty feet have got no rhythm
Though it’s easy to pretend
I know you’re not a fool”
لست المذنب.
ولم تكن خطواتي مذنبة.
قلبي فقط… أحبك.
وذاك كان ذنبي الوحيد.
“يا من صوّرت لي الدنيا كقصيدة شعر
وزرعت جراحك في صدري، وأخذت الصبر
إن كنت أعزّ عليك، فخذ بيدي
فأنا مفتونٌ من رأسي لحد قدمي”
لكنك لم تُمدّ يدك.
بل سحبتها حين بدأت أغرق.
“I should have known better than to cheat a friend
And waste the chance that I’d been given…”
لكنني لم أكن الغادر.
هل كنتُ أحمقًا؟
لا، لم أكن كذلك.
الحمق لا يسكن القلوب التي تُحب بصدق،
بل الجُبن يسكن من يستغل هذا الصدق ليخفي ضعفه.
كنتُ وفيًّا، شفافًا، نقيًّا بما يكفي لأمنحك قلبي دون شروط…
أما أنت، فكنتَ أضعف من أن تُبادل،
وأجبن من أن تعترف أنك لا تملك ما يُقابل النقاء إلا الخذلان.
“لو أني أعرف أن الحب خطير جدًا ما أحببت
لو أني أعرف أن البحر عميق جدًا ما أبحرت
لو أني أعرف خاتمتي… ما كنتُ ابتدأت”
لكنك كنتَ البحر.
كنتَ الموج الأزرق في عينيك يناديني نحو الأعمق،
وأنا ما عندي تجربة… ولا زورق.
“إني أتنفّس تحت الماء… إني أغرق”
أغرق في الذكرى.
في الندم.
في السؤال الذي لا ينتهي…
“Tonight, the music seems so loud
I wish that we could lose this crowd
Maybe it’s better this way…”
أجل، ربما.
لكنني كنت على استعداد للجرح… لو أنك جرحتني بصدق.
“يا كل الحاضر والماضي… يا عمر العمر
هل تسمع صوتي اللي جاي من أعماق البحر؟
إن كنت قويًا، أخرجني من هذا اليم
فأنا لا أعرف… لا أعرف فن العوم”
لكن لا أحد ينقذني.
أنا لا أرقص بعد الآن،
ولا أشتاق كما كنت.
لكنني، رغم كل شيء،
كلما سمعت لحنًا يشبهك…
رقصت داخلي،
واشتقت إليك،
ثم بكيت على نفسي.
**
لقد كانت رقصة…
ثم أصبحت حياة…
ثم انتهت.
لكن الأغنية…
ما زالت تعزفني.