الرئيسية سياحة تيبازة.. حين يلتقي البحر بالتاريخ

تيبازة.. حين يلتقي البحر بالتاريخ

310
0

تيبازة _ كمال فليج 

تيبازة ليست مجرّد مدينة على ضفاف المتوسّط، إنّها قصيدة من حجر وموج، حيث يتشابك عبق التاريخ مع نسيم البحر. هنا، على رمالها الذهبية، مرّ الفينيقيون فتركوا بصماتهم، وجاء الرومان فأقاموا مسارحهم ومعابدهم، ثم مرّت حضارات أخرى، وكلّها ذابت في ذاكرة المكان.

في تيبازة، ينهض جبل شنوة شامخًا كحارسٍ للمدينة، يطلّ على البحر من علٍ، وكأنّه يروي للأفق حكاياتٍ عن الشعوب التي عبرت واندثرت، وبقي هو شاهدًا لا يشيخ. أمّا البحر، فيظلّ وفيًّا لعشّاقه، يفتح لهم ذراعيه كل صباح، ويلقي إليهم أسرار الموج كل مساء.

عند مدخل المدينة الأثرية، يستقبل الزائر المسرح الروماني بمقاعده الحجرية التي كانت تتسع لآلاف المتفرجين، حيث كانت تُقام عروض الترفيه والاحتفالات الشعبية. وعلى مقربة منه، تقف الفيلا الرومانية بأرضيتها المزينة بفسيفساء دقيقة تعكس حياة الرومان اليومية وذوقهم الفني الرفيع.

ولعلّ أبرز المعالم التي تميز تيبازة، البازيليكا المسيحية الكبرى، التي تعد واحدة من أضخم الكنائس في شمال إفريقيا، والتي تحتضن أضرحة لأساقفة وشخصيات بارزة من تلك الحقبة، في دلالة على الانتشار المبكر للمسيحية في المنطقة.

كما تكشف الحمامات الرومانية والمعابد عن جانب آخر من حياة الترف والطقوس الدينية، فيما تُظهر الطرقات المرصوفة والمدافن المحيطة مدى التنظيم العمراني الذي تميزت به المدينة.

قبر الرومية.. أسطورة التاريخ على ضفاف المتوسط

على ربوة مطلة على زرقة البحر الأبيض المتوسط، بين الجزائر العاصمة وتيبازة، ينتصب قبر الرومية أو ما يُعرف تاريخيًا بـ المدفن الملكي الموريتاني، شاهدًا حجريًا على حضارة ضاربة في عمق التاريخ.

يعود تاريخ بناء هذا الصرح إلى القرن الأول قبل الميلاد، حيث يُرجّح أنه شُيّد ليكون مدفنًا للملك يوبا الثاني وزوجته كليوباترا سيليني، ابنة كليوباترا السابعة ملكة مصر ومارك أنطونيوس. ومنذ ذلك الحين، ظل هذا الأثر الغامض مثار دهشة الزوار والباحثين.

المعلم ذو شكل دائري فريد، يبلغ قطره حوالي 60 مترًا وارتفاعه 32 مترًا، يرتكز على قاعدة مربعة، ويحيط به ستّون عمودًا نصف دائري، فيما تعلوه قبة هرمية ضخمة. تصميمه المعماري يجمع بين الطراز الأمازيغي المحلي والتأثيرات الرومانية والهلنستية، في انسجام يعبّر عن تلاقح الحضارات في حوض المتوسط.

ورغم أن المدفن تعرّض عبر القرون لمحاولات نهب وتخريب، فإنه ما يزال شامخًا، يقاوم عوامل الطبيعة وعبث الإنسان. وهو اليوم واحد من أبرز المعالم الأثرية في الجزائر، ووجهة يقصدها السياح والدارسون لاكتشاف أسرار ممالك الموريتانيين.

قبر الرومية ليس مجرد مدفن ملكي، بل هو أسطورة منقوشة في الحجر، تختصر قرونًا من التاريخ، وتُجسّد التقاء حضاراتٍ صنعت مجد المتوسط. وهو بذلك يظلّ رمزًا خالدًا لذاكرة الجزائر وتاريخها العريق.

الجمع بين هذه الآثار التاريخية وسحر البحر الأبيض المتوسط، يمنح الزائر تجربة فريدة تجمع بين متعة الاستكشاف وجمال الطبيعة. وهو ما يجعل تيبازة اليوم واحدة من أهم الوجهات السياحية والأثرية في الجزائر.

تيبازة ليست مدينة تُزار، بل مدينة تُعاش؛ فمن يسير بين أطلالها الرومانية، ويجلس عند مسرحها الحجري، ثم يترك عينيه تذوبان في زرقة البحر، سيدرك أنّه أمام لوحة رسمتها يد الطبيعة وألوان التاريخ معًا.

ولعلّ أجمل ما قيل عنها هو ما كتبه ألبير كامو: “في تيبازة، أتعلّم أن أكون سعيدًا”. فهي المكان الذي يعلّمك أن الحياة، مهما أثقلتْها الهموم، لا تزال قادرة على أن تهبك ومضة جمال، ولمسة سكينة.