الرئيسية مقالات رقصة حتى الموت… عندما فقد الجسد سيادته على نفسه

رقصة حتى الموت… عندما فقد الجسد سيادته على نفسه

23
0

 

بقلم: أحمد علي بكري

في صيف عام 1518، شهدت مدينة ستراسبورغ الألمانية حادثة تُعد من أغرب وأقسى الوقائع في التاريخ الأوروبي، حادثة حيّرت المؤرخين والأطباء وعلماء النفس حتى يومنا هذا، وعُرفت لاحقًا باسم وباء الرقص أو الرقصة المميتة.

بدأت القصة حين خرجت امرأة تُدعى، بحسب ما ورد في السجلات التاريخية، فراو تروفيا إلى أحد شوارع المدينة، وشرعت في الرقص بلا موسيقى، وبلا سبب ظاهر. لم يكن رقصها احتفالًا ولا طقسًا اجتماعيًا، بل حركة قهرية استمرت لساعات، ثم لأيام، دون أن تتمكن من التوقف رغم الإنهاك الشديد.

ما بدا في بدايته حادثة فردية غريبة، سرعان ما تحوّل إلى ظاهرة جماعية مرعبة. فخلال أيام، انضم إليها آخرون، رجالًا ونساءً، يرقصون بعنف وتشنج، غير قادرين على السيطرة على أجسادهم. وبعد أسابيع قليلة، تجاوز عدد الراقصين أربعمائة شخص، ينهارون تباعًا من الإرهاق والجفاف، وبعضهم يفارق الحياة في الشوارع.

تشير الوثائق المعاصرة للحدث إلى أن عشرات الأشخاص ماتوا نتيجة السكتات القلبية، أو النزيف، أو الإرهاق الكامل، في وقت كانت فيه المدينة تعاني أصلًا من الفقر والمجاعة والأمراض، إضافة إلى مناخ ديني مشحون بالخوف من العقاب الإلهي.

اللافت أن السلطات المحلية آنذاك لم تُحسن التعامل مع الكارثة، بل اتخذت قرارًا زاد الوضع سوءًا. إذ اعتقد الأطباء أن الحل يكمن في “إخراج المرض من الجسد”، فأمروا بتوفير منصات للرقص وجلب موسيقيين، على أمل أن يرقص المصابون حتى يشفوا. لكن النتيجة جاءت عكسية، وارتفع عدد الضحايا بدل أن ينخفض.

أما المرأة التي بدأت الشرارة الأولى، فراو تروفيا، فقد اختفت من السجلات فجأة. لا يُعرف على وجه اليقين هل ماتت مثل غيرها، أم نُقلت إلى أحد المزارات الدينية طلبًا للعلاج الروحي، حيث كان يُعتقد أن القديس “فيتوس” هو المسؤول عن هذه اللعنة.

تعددت التفسيرات التي حاولت فهم ما جرى. فبعض الباحثين رجّحوا أن ما حدث كان حالة هستيريا جماعية ناتجة عن ضغط نفسي هائل عاشه السكان. بينما ذهب آخرون إلى احتمال التسمم بفطر الإرغوت الذي يصيب الحبوب ويسبب تشنجات وهلوسة، وإن كانت هذه النظرية أقل قبولًا اليوم. ويبقى العامل الديني والخوف الجمعي من اللعنة أحد أهم المحركات النفسية للكارثة.

وبين الطب والدين وعلم النفس، تبقى رقصة ستراسبورغ شاهدًا صادمًا على هشاشة الإنسان حين تتكاتف الأزمات، وعلى قدرة الخوف الجماعي على تحويل الجسد من أداة حياة… إلى أداة هلاك.